الرئيسيةماهر عبدالرحمان* يتساءل : انقلاب أم عمليّة تصحيح ما فوق دستوريّة؟

ماهر عبدالرحمان* يتساءل : انقلاب أم عمليّة تصحيح ما فوق دستوريّة؟

الدساتير في كلّ دول العالم هي الإطار القانوني لكلّ الظّواهر والممارسات السّياسيّة في إطار الدّولة.فهي المرجع الأساسي لكلّ القوانين على مختلف درجاتها، ولا يمكنُ لأيّ قانون أي يكون مخالفا لنصوص الدّستور أو روحها.والدّساتير هي التي تضمنُ أيضا الحقوق الأساسيّة وحرّيات المواطنين.لذلك تقع الدّساتير في أعلى قمّة الهرم القانون، ومن صلبه يكون التّشريع.غير أنّ الموقع العلوي للدّستور يُخضعُه ضرورة لأمرين: أحدُهما خارجي وآخر داخلي. (Favoreu, « Souveraineté et supraconstitutionnalité »)فالخارجي منهما هي القانون الدّولي من مواثيق ومعاهدات دوليّة تُوقّع عليها الدّولة. فلا يُمكنُ للدستور أن يُخالف في أحكامه أحكام أيّ ميثاق عالمي مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو حقوق الطفل، والمُعاهدات الدّوليّة مثل حماية ضحايا النزاعات المسلحة أو الاتفاقية الدولية للقضاء عيل جميع أشكال التمييز العنصري، ألخ. ولا يُمكنُ عادة التّنصيص على كلّ الاتفاقيّات والمعاهدات في نصّ الدّستور.أمّا الدّاخليّ، فيتعلّق أساسا بما يُسمّى “بالحقوق الطّبيعيّة” ius naturae. وتنقسم هذه الحقوق إلى :- فرديّة مثل احترام الحرّية الشخصيّة والكرامة الإنسانيّة والملكيّة الخاصّة والحقّ في الزواج، ألخ…،- وجماعيّة مثل حماية المستضعفين واحترام ثقافات وحضارات البشر، وحتّى حماية البيئة التي تعيش فيها المجموعات البشريّة.وقد تمّ الاعتراف بهذه الحقوق منذ الحضارة اليونانيّة القديمة والرّومانيّة (سيسرون)، والفلاسفة المسيحييّن (توماس الإكويني)، ثمّ فلاسفة العصر الحديث (لوك، هوبز، باين وغيرهم) وأيضا فلاسفة الأنوار.فهذه الحقوق تتجاوز الدّساتير، وتُمسّى “المرجعيّات ما فوق الدّستوريّة” Supra constitutionnelle، والتقيد بها مُلزم من أجل حماية المواطنين.وإذا قسنا ذلك على تفعيل الفصل 80 من الدّستور، فإنّ هذا التّفعيل لم يحترم بالكامل تفاصيل النصّ الذي يؤكّد على أن مجلس النّواب يستمرّ في حالة انعقاد دائم، فقد تمّ تجميد عمل المجلس من خلال إغلاق مقرّه، وهو ما اعتُبر انقلابا على الشرعيّة الدّستوريّة للبرلمان. غير أنّنا نجدُ أنّ هذا التفعيل اعتمد في جوهره ومقصده أيضا على الفقرة الأولى من الفصل نفسه وهو أنّه “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السري العادي لدواليب الدولة،، أن يتخذ التدابير التي حتمها تلك الحالة االستثنائية”.لا يُمكنُ لأيّ طرف أن يُنكر الأخطار التي تُهدّد تونس من خلال عجز الحكومة التي لم نر لها إنجازا واحدا، والتلاعب بالملفّات القضائيّة، والتمويل المشبوه للأحزاب، والاعتداء على كرامة المواطنين، والمحسوبيّة، والفساد المالي والإداري، والانقطاع المتكرّر للماء في مناطق عديدة من الجمهوريّة ما أدى إلى قيام المواطنين إلى إغلاق الطرقات، هذا رغم التنصيص على ضمان الحقّ في الماء (الفصل 44)، ألخ…ففي هذه التّجاوزات مسّ بالحقوق الطبيعيّة للمواطنين، ويجبُ ألا تقف أيّة تبريرات دستوريّة أمام الحقّ في ممارستها. فهذه الحقوق أعلى من الدّستور، ووجب فعلُ ما هو واجبٌ مع احترام أقصى للدستور وانطلاقا من روحه التي نصّ عليها في ديباجته من ضرورة تأمين “…استمرارية الحياة الآمنة للأجيال القادمة، وتحقيقا لإرادة الشعب أن يكون صانعا لتاريخه”. ولمّا تتعطّل هذه الحقوق الطبيعيّة، يصبح اللجوء إلى المعايير ما فوق الدّستوريّة أمرا مفروضا.ويطلق خبراء القانون الدستوري في العالم على المعايير ما فوق الدستور تسمية “دستور الدّساتير”. وهم يتّفقون أنّه لا يمكن للبرلمان أن يكون القوة المكونة لأيّة قرارات ما فوق دستوريّة، لأنه من المفترض أن يخضع لقواعده حتّى وإن فشل في فرض رقابة دستوريّة على الحكومة والهيئات. ويعتبرُ الدستور الياباني مثلا أنّ سيادة الشّعب هي أعلى من كلّ القوانين والدّساتير.وقد كان البرلمان المُجمّد فشل في تشكيل المحكمة الدّستوريّة التي لها صلاحيّة ممارسة الفقه فوق الدّستوري. لذلك بقي الفصل 80 من الدستور المنفذ الوحيد لحفظ حقوق المواطن بفعل صادر عن رئيس الجمهوريّة في إطار ما خوّل له الدستور من صلاحيّات في نظام برلمانيّ مُشوّه (رئيس بشرعيّة انتخابيّة بصلاحيّات أقلّ بكثير من رئيس حكومة معيّن). فهل ما وقع في تونس انقلاب أم عمليّة تصحيح بمرجعيّة ما فوق دستوريّة؟

** ماهر عبدالرحمان هو صحفي وروائي تونس اشتغل في التلفزة التونسية وعمل رئيس تحرير بمجموعة أم بي سي في بريطانيا وله عدة مساهمات في الميدان السمعي البصري ويعد واحد من ابرز الخبراء في مجاله محليا ودوليا .

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

مواضيع أخرى

error: Content is protected !!