في ماي 1982، دخل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925-1995) في حوار مع الكاتب إلياس صنبر، الذي كان قد أنشأ لتوه مجلة “دراسات فلسطينية”، مع ليلى شهيد وفاروق مردم بك. إنها مقابلة تتوافق بقوة مع حاضرنا، حيث يذكرنا بالمذبحة الإسرائيلية التي تجري اليوم ولاتزال في قطاع غزة بأن هذا الجيب الفلسطيني يذكرنا بمحمية للهنود الحمر .
قبل 42 عاماً، ندد جيل دولوز في مجموعة نصوصه المعنونة “نظامان مجنونان” بسياسة الإبادة الجماعية التي تنتهجها إسرائيل تجاه الفلسطينيين. يشرح معناها. في هذا النص
« ستطالب الصهيونية، ثم دولة إسرائيل، الفلسطينيين بالاعتراف بها قانونياً. لكن إسرائيل، من جهتها، لم تتوقف أبداً
عن إنكار وجود شعب فلسطيني. فلن يُذكر “الفلسطينيون”، بل “العرب في فلسطين”، وكأنهم وجدوا هناك صدفة أو عن طريق الخطأ. ولاحقًا، سيتم التعامل مع الفلسطينيين المُهجرين كما لو أنهم قدموا من الخارج، دون أي ذكر لحرب المقاومة الأولى التي خاضوها بمفردهم. وسيُصوَّرون على أنهم أحفاد هتلر، لمجرد أنهم لم يعترفوا بحق إسرائيل. بينما تحتفظ إسرائيل لنفسها بحق إنكار وجودهم الواقعي. من هنا تبدأ خرافة توسعت شيئًا فشيئًا، لتُثقل كاهل كل من يدافع عن القضية الفلسطينية. هذه الخرافة، أو هذا الرهان الإسرائيلي، يتمثل في تصوير كل من يعترض على الواقع المفروض وأفعال الدولة الصهيونية على أنه معادٍ للسامية. وهذه العملية تنبع من السياسة الباردة التي تنتهجها إسرائيل تجاه الفلسطينيين.
لم تُخفِ إسرائيل يوماً هدفها منذ البداية: تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها. بل أكثر من ذلك، التصرف وكأن الأرض الفلسطينية كانت دائمًا خالية، ومُخصصة منذ الأزل للصهاينة. لم يكن الأمر استعمارًا بالمعنى الأوروبي في القرن التاسع عشر: لم تكن النية استغلال سكان البلاد، بل تهجيرهم. أما من بقي، فلن يُعامل كقوة عمل مرتبطة بالأرض، بل كعمال مهاجرين يعيشون في الغيتوهات، وكأنهم وافدون. منذ البداية، كان شراء الأراضي مشروطًا بكونها خالية من السكان، أو قابلة للإخلاء. إنه نوع من الإبادة، لكن الإبادة الجسدية تأتي تابعة للإفراغ الجغرافي: بما أنهم “عرب” فقط، فإن على الفلسطينيين الباقين أن يندمجوا مع بقية العرب. الإبادة الجسدية، سواء نُفذت بيد مرتزقة أو غيرهم، حاضرة تمامًا. لكن يُقال إنها ليست إبادة جماعية، لأنها ليست “الهدف النهائي”؛ فهي مجرد وسيلة من بين وسائل أخرى.
أما التواطؤ بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فلا يعود فقط لقوة اللوبي الصهيوني. فقد أوضح إلياس صنبر كيف أن الولايات المتحدة رأت في إسرائيل صورة من تاريخها: إبادة الهنود الحمر، التي لم تكن كلها جسدية مباشرة. بل كان الهدف إفراغ الأرض، والتصرف كما لو لم يكن هناك هنود قط، إلا في غيتوهات تجعل منهم مهاجرين داخليين. من نواحٍ عديدة، يُشبه الفلسطينيون اليوم “الهنود الجدد”، هنود إسرائيل. التحليل الماركسي يُظهر الحركتين المتكاملتين للرأسمالية: فرض حدود على نفسها تُنظم ضمنها نظامها الخاص وتستغله؛ وتوسيع هذه الحدود باستمرار، لتتجاوزها وتؤسس من جديد نظامها بشكل أكبر أو أكثر كثافة. تجاوز الحدود كان فعل الرأسمالية الأمريكية، حلم “الحلم الأمريكي”، الذي تبنته إسرائيل في حلم “إسرائيل الكبرى” على الأرض العربية، وعلى حساب العرب. »
- “هنود فلسطين”، نُشر في مجموعة “نظامان مجنونان” عام 1983 Editions de Minuit

