الرئيسيةأخبار تونسحملات النظافة في تونس…إعتراف ضمني بفشل جماعي؟

حملات النظافة في تونس…إعتراف ضمني بفشل جماعي؟

في كل صيف، ومع اشتداد حرارة الطقس وتزايد الإقبال على الشواطئ والمتنزهات، تعود الدعوات لحملات النظافة في تونس إلى الواجهة، سواء من قبل منظمات المجتمع المدني أو من خلال المبادرات الفردية.

وتبدو هذه الدعوات، رغم نُبلها الظاهر، في جوهرها اعترافًا غير معلن بتدهور الفضاء العام وعجز المنظومة المؤسساتية والوعي الجمعي عن جعل النظافة ممارسة يومية راسخة.

فالواقع لا يحتاج إلى عدسة مكبرة: أكياس القمامة المنزلية تتكدس في مداخل الأحياء، الأرصفة تغرق في بقايا البلاستيك وبقايا الطعام، والشواطئ تتحول، مع كل موسم اصطياف، إلى ما يشبه مكبات صغيرة، لا تنقصها إلا اللافتات الرسمية. فما أن يغادر المصطافون حتى تنكشف الكارثة البيئية: زجاجات، علب، أعقاب سجائر، وبقايا طعام متناثرة على الرمال.

— حملات النظافة في تونس…إعتراف ضمني بفشل جماعي؟

الشواطئ شاهد حي

من الأمثلة الفاضحة التي تعكس هذا الواقع، ما يحدث في الشواطئ حيث يتداول نشطاء على مواقع التواصل صورًا صادمة لكميات هائلة من القمامة المتراكمة على الرمال والممرات قوارير بلاستيكية، حفاضات أطفال مستعملة، بقايا مأكولات، وحتى حيوانات نافقة… كل ذلك يختلط بمنظر البحر الذي يتحوّل من مكان للراحة إلى مسرح للانفلات البيئي.

وعادت ما تسارع السلط المحلية او المنظمات ذات البعد التطوعي إلى تنظيم حملات نظافة ويتم تجنيد عشرات المتطوعين، بينهم أطفال، لتنظيف ما خلفه الراشدون! لكن المشهد نفسه يتكرر في الأسبوع الموالي، وكأن الرسالة لم تصل، أو أن لا أحد يريد أن يتلقاها أصلًا.

أزمة أعمق من “الأوساخ”

إن تكرار حملات النظافة، على أهميتها الرمزية، يطرح سؤالًا محوريًا: لماذا نحتاج إلى حملات موسمية للنظافة في بلد يفترض أن يكون قد تجاوز هذه المرحلة من الوعي الجماعي؟
لو كانت النظافة فعلًا شخصيًا متجذرًا في سلوك المواطن التونسي، لما احتاج الأمر إلى تعبئة جماعية ومواسم دعائية تُذكّر الناس بما يجب أن يكون بديهيًا.

الأزمة أعمق من مجرد “أوساخ”. إنها أزمة ثقافة مدنية وغياب الشعور المشترك بالانتماء إلى فضاء عمومي. إذ لا يظهر على سلوك التونسيين أنهم يعتبرون الشارع أو الشاطئ أو الحديقة ممتلكات عامة، بل أقرب إلى أماكن مهملة لا تستحق الرعاية. ومن ثمة يغيب “سلوك تقاسم الفضاء” الذي يفترض احترام الغير وحرصًا على المصلحة العامة.

— حملات النظافة في تونس…إعتراف ضمني بفشل جماعي؟

رقابة شكلية

من جهة أخرى، تلعب السلطات دورًا باهتًا في هذا المجال، حيث تغيب الرقابة الفعلية الصارمة، وتندر آليات الردع أو تفعيل القوانين الزجرية. فحتى في المدن الكبرى، تمر عربات البلدية أحيانًا بشكل عشوائي، وتغيب حاويات القمامة أو تُترك فارغة مهملة. كما لا تُفعّل خطايا الإلقاء العشوائي للفضلات إلا على الورق.

وهكذا، تتحول الحملات التطوعية إلى ما يشبه ترقيعًا موسميًا لوضع مزمن. ويستمر الجميع في ممارسة طقس جماعي سنوي عنوانه: “نظف ثم انسَ”.

في انتظار التحول العميق

في النهاية، قد لا تكون المشكلة في غياب النظافة، بل في غياب القناعة بأن الفضاء العام امتدادٌ طبيعيٌ لمسؤوليتنا الفردية. وبانتظار ذلك التحول الثقافي، ستبقى الدعوات إلى التنظيف، في جوهرها، اعترافًا جماعيًا بأننا لم ننظف ما يجب تنظيفه في أنفسنا أولًا.

من الناحية السوسيولوجية، يعود تدهور سلوك المواطن تجاه الفضاء العام والنظافة إلى عدة عوامل اجتماعية وثقافية عميقة تتداخل فيما بينها. إليك بعض الأسباب السوسيولوجية التي تفسر هذا السلوك:

1. غياب الوعي الجماعي بالمسؤولية الاجتماعية

في المجتمعات التي تعاني من تدهور النظافة، غالبًا ما يغيب الوعي بالمسؤولية المشتركة تجاه الفضاء العام. في تونس، كما في العديد من المجتمعات، يبدو أن الأفراد لا يعتبرون أن الفضاء العام هو ملك للجميع، مما يعزز السلوك الأناني في إلقاء النفايات في الشوارع أو الأماكن العامة. هذا يعود إلى غياب الثقافة المدنية التي تعزز الالتزام بالمسؤولية تجاه المصلحة العامة.

2. الفقر الثقافي وتعليم المواطنة

في كثير من الأحيان، يكون عدم الاهتمام بالنظافة انعكاسًا لـ الفقر الثقافي أو غياب التربية على المواطنة. إذ لا يتم تدريب الأفراد على كيفية احترام الفضاء العام وتقديره كجزء من هويتهم الوطنية. ففي المنظومات التعليمية والثقافية التي تفتقر إلى تعليم القيم البيئية والسلوك المدني، يصبح تنظيف الشوارع ليس إلا وظيفة جماعية تتحملها المؤسسات فقط، وليس واجبًا شخصيًا.

3. الركود الاجتماعي والاقتصادي

من العوامل السوسيولوجية الأخرى التي تساهم في تدهور النظافة في الفضاء العام هو الركود الاجتماعي والاقتصادي. عندما يشعر الأفراد بالعجز عن تحسين أوضاعهم الاقتصادية أو الاجتماعية، قد يتطور لديهم نوع من اللامبالاة تجاه تحسين البيئة المحيطة. فالشعور بالتهميش قد يؤدي إلى تصوّر أن الفضاء العام ليس ذا قيمة وأنه لا يستحق العناية.

4. الفراغ المؤسسي وتقصير الرقابة

من الناحية السوسيولوجية، يساهم الفراغ المؤسسي في تراجع السلوك المدني. عندما لا تكون هناك رقابة صارمة على السلوك البيئي أو عدم وجود عقوبات قانونية فاعلة تجاه المخالفات البيئية، يتغيب الوازع الاجتماعي للمواطن. هذا يجعل التونسي يشعر بأن هناك غموضًا أو ضعفًا في التطبيق، مما يؤدي إلى تراخي في الالتزام بالقواعد.

5. السلوك التقليدي تجاه “الأماكن العامة”

في المجتمعات التي تمر بتحولات اجتماعية واقتصادية، غالبًا ما يكون السلوك التقليدي تجاه الفضاء العام متأثراً بثقافة الشوارع أو الأزقة التي تكون مملوكة “لأحد” أو “لجماعة” ما. في هذه الحالة، لا يشعر الفرد بأن الفضاء العام هو مكانه، وبالتالي لا يتوانى عن تدميره أو تلويثه.

6. الانفصال عن البيئة الطبيعية

في العديد من المجتمعات الحضرية، الانفصال عن البيئة الطبيعية يجعل الناس ينظرون إلى البيئة باعتبارها مجرد خلفية حضرية لا تتطلب الاهتمام. في ظل هذه الفجوة، يغيب الارتباط العاطفي بالأماكن العامة، مما يجعل المواطن يميل إلى تلويثها وعدم الاعتناء بها.

7. الانتقائية في تحمل المسؤولية

من ناحية سوسيولوجية، هناك ميل للاعتقاد بأن المسؤولية تقع على عاتق الآخرين، سواء كانت الدولة أو المؤسسات. عندما يتجاهل المواطن دوره الفردي في الحفاظ على نظافة المكان، يصبح من السهل تحميل المسؤولية على جهة أخرى. هذا ينم عن ثقافة اللامبالاة وعدم الشراكة المجتمعية.

8. تأثير وسائل الإعلام والدعاية

الدعاية الإعلامية التي تركز على حملات النظافة الموسمية بدلًا من تثقيف الناس بشكل مستمر حول أهمية النظافة يمكن أن تعزز في أذهان الناس فكرة أن النظافة هي مهمة موسمية فقط. هذا يؤدي إلى استهلاك سطحي للوعي البيئي ويقلل من التزام الناس على مدار العام

مقالات ذات صلة
- Advertisment -

الأكثر شهرة

مواضيع أخرى

error: Content is protected !!