شهدت تونس، يومي الاثنين والثلاثاء، إضرابًا عامًا استمر 48 ساعة شلّ نشاط القطاع المالي والمصرفي، بعد دعوة من الجامعة العامة للبنوك والمؤسسات المالية التابعة لـ الاتحاد العام التونسي للشغل .
الخبير الاقتصادي والمحاسب القانوني ماهر قعيدة، مؤسس شركة ABC – Audit & Business Consulting التي تعمل مع أكثر من خمسين شركة متعددة الجنسيات في تونس، قال لوكالة “Agenzia Nova” إن الإضراب يعكس احتقانًا اجتماعيًا واقتصاديًا عميقًا بسبب الخلاف حول الزيادات في الأجور التي ينص عليها قانون المالية لسنة 2026، خاصة الفصل 15 منه.
خلفيات الخلاف:
وفق قعيدة ينص النظام التعاقدي في القطاع البنكي على مفاوضات اجتماعية ثلاثية كل ثلاث سنوات لتحديد الزيادات في الأجور.
لكن الحكومة التونسية تدخلت بإضافة الفصل 15 من قانون المالية الجديد، الذي يفرض زيادات مباشرة من السلطة التنفيذية للأعوام 2026 و2027 و2028، دون توضيح نسبها أو آليات تطبيقها.
النقابات ترى في ذلك تدخّلًا حكوميًا في المفاوضات الثنائية بين أصحاب العمل وممثلي العمال، فيما يعتبر مجلس البنوك والمؤسسات المالية (CBF) أنه يجب انتظار صدور المرسوم التنفيذي في جانفي القادم قبل اتخاذ أي إجراء.
المجلس البنكي وصف الإضراب بأنه “غير مبرر وغير مقبول”، معتبراً أن له أبعادًا سياسية أكثر من اجتماعية، وأن الاتحاد العام للشغل يسعى عبره إلى إظهار قوته واستعادة نفوذه بعد تراجع موقعه نتيجة قضايا داخلية.
الوضع الاقتصادي والمالي:
التقرير تضمن تقييمًا شاملاً للقطاع البنكي في تونس استنادًا إلى تقرير وكالة Fitch Ratings الأميركية، التي أكدت أن البنوك التونسية تعمل في بيئة اقتصادية صعبة تتسم بارتفاع التضخم وضعف النمو وغلاء الفائدة.
نسبة القروض المتعثرة بلغت 14.7% في مارس 2025، وهي الأعلى منذ 2021، رغم ارتفاع الأرباح الصافية للبنوك العشر الكبرى بنسبة 13%.
لكن الاعتماد المفرط للدولة على تمويل البنوك المحلية أدى إلى نقص السيولة الموجهة لتمويل الاقتصاد الحقيقي.
الدين العام والسياسة النقدية:
يبلغ الدين العمومي التونسي حوالي 83 إلى 84% من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 130 مليار دينار (38 مليار يورو).
القايدة أشار إلى أن الحكومة لجأت إلى تمويل مباشر من البنك المركزي التونسي، الذي وافق على منحها قروضًا طويلة الأجل (حتى 15 سنة) بشروط ميسّرة، لتقليص الاعتماد على الدائنين الأجانب.
لكن هذا التوجه – حسب الخبير – قد يهدد استقلالية البنك المركزي ويؤدي إلى ضغوط تضخمية إذا استمر.
العلاقة مع وكالات التصنيف وصندوق النقد:
العلاقة بين الحكومة التونسية ووكالات التصنيف الائتماني (مثل Fitch وMoody’s) متوترة، إذ يعتبر الرئيس قيس سعيّد أنها غير موضوعية وتمارس ضغوطًا سياسية واقتصادية على تونس.
كما أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يطالبان بتقليص الدعم وتجميد الأجور وخصخصة المؤسسات العمومية، وهي سياسات يرفضها الرئيس لأنها “تهدد التماسك الاجتماعي”.
موقف الرئيس سعيّد:
سعيّد دعا البنوك إلى الاستثمار في الاقتصاد الوطني ودعم الشباب بمشاريع دون ضمانات عقارية، مؤكدًا أن القطاع المالي يجب أن يكون في خدمة الدولة والمجتمع لا العكس.
الخبير قعيدة علّق بأن البنوك التونسية “من بين الأكثر ربحية في العالم” وتحقق أرباحًا سنوية بين 1.2 و1.3 مليار دينار، وهو ما يبرر مطالبة الدولة لها بالمساهمة في تمويل المشاريع الاجتماعية.
نظرة أوسع:
التقرير أشار إلى أن بعد الثورة، استفادت البنوك من تمويل الدولة بدل دعم القطاع الخاص، ما جعلها تحقق أرباحًا ضخمة بتوظيف أموالها في سندات الخزينة بفوائد مرتفعة تصل إلى 9%.
كما أكد القايدة أن النظام المصرفي يخضع اليوم لإصلاحات هيكلية عميقة، مع فرض قواعد بازل 3 والمعايير المحاسبية الدولية IFRS لتعزيز الشفافية.
حسب قعيدة ما يجري في تونس هو إعادة تنظيم للعلاقة بين الدولة ورجال الأعمال والقطاع المالي بعد عقود من التداخل بين السياسة والمال، مضيفًا أن ما يقوم به الرئيس سعيّد هو محاولة لاستعادة السيادة الاقتصادية بعد مرحلة “الديمقراطية الشكلية” التي خدمت مصالح محدودة.

