في أحد أكثر السجون توتّرًا في جمهورية إفريقيا الوسطى، حيث تُحتجز عناصر مسلّحة ومجرمون خطرون وسجناء حرب، تخوض الأخصائية النفسية التونسية سارة فرشيشي معركة صامتة… معاناة لا تُرى، وصرخات بلا صوت، وعقول تتأرجح بين الانهيار والعنف.
سارة، التي تعمل ضمن بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في إفريقيا الوسطى (MINUSCA)، دخلت التاريخ كأول أخصائية نفسية سريرية من تونس تُباشر مهام الدعم النفسي خلف أسوار السجون في هذا البلد الإفريقي المضطرب.
يُصنّف السجناء الذين تتعامل معهم سارة على أنهم من “الفئة عالية الخطورة”، يتراوح ماضيهم بين جرائم عنف شديدة، ومشاركات في صراعات مسلحة، وميول انتحارية أو اضطرابات نفسية شديدة. لكنها رغم ذلك، استطاعت أن تخلق علاقة ثقة نادرة مع نزلاء فقدوا الثقة في كل شيء، بمن في ذلك أنفسهم.
من خلال جلسات استماع فردية وجماعية، أساليب العلاج السلوكي، وتقنيات الدعم النفسي العاجل، ساهمت سارة في خفض حوادث العنف والانهيار العقلي، بل ونجحت في دمج برامج لإعادة التأهيل النفسي وسط بيئة كانت إلى وقت قريب معادية لأي فكرة “إصلاح”.

ضمن جهود البعثة الأممية لدعم نظام العدالة الجنائية، تعمل فرشيشي كجزء من فريق يضم قضاة وأطباء وخبراء قانونيين واجتماعيين. لكن وجود اختصاصية نفسية عربية – إفريقية على هذا الخط الأمامي يجعل التجربة استثنائية، ويكشف عن إمكانات الكفاءات التونسية في مهام السلام وبناء المجتمعات بعد الصراعات.تقول مصادر من البعثة إن “وجود فرشيشي شكّل نقطة تحول في التعاطي مع نزلاء السجون”، خاصة في ظل غياب الرعاية النفسية عن أنظمة الاحتجاز في إفريقيا الوسطى منذ سنوات.
ورغم صعوبة البيئة وضغوط الواقع، تمضي سارة في مهمتها بشجاعة مهنية وإنسانية. هي لا تبحث عن الأضواء، بل عن نافذة أمل داخل عتمة الزنازين. في كل جلسة، وكل كلمة، وكل صمت طويل، تصنع أثرًا قد يُغيّر مصير إنسان.

من هي الدكتورة سارة فرشيشي؟
الدكتورة سارة فرشيشي هي أخصائية نفسية سريرية تونسية تعمل ضمن بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية إفريقيا الوسطى (MINUSCA)، تحديدًا داخل وحدة الشؤون السجنية. وتُعدّ أول تونسية تتولى مهمة تقديم الدعم النفسي المباشر لنزلاء السجون في هذا البلد الذي يعاني من هشاشة أمنية واضطرابات مزمنة.
خلال مهامها، تولّت سارة تقديم استشارات فردية وجماعية للسجناء المصنّفين ضمن الفئة “عالية الخطورة”، حيث ساعدت في تشخيص ومعالجة حالات معقدة من القلق، الاكتئاب، الاضطرابات الذهانية، والميول الانتحارية. كما كانت محورًا أساسيًا في فعاليات “يوم نيلسون مانديلا” بسجن بامباري المركزي، حيث ألقت محاضرات توعوية لفائدة أكثر من 200 سجين، وقدّمت إرشادات حول الرعاية النفسية داخل بيئة سجنية قاسية.
ساهمت الدكتورة فرشيشي في تحسين بيئة السجون من خلال التدخل النفسي المباشر، وتقليص حوادث العنف والانهيارات العقلية، كما تمكّنت من إحالة حالات حرجة للعلاج بالمستشفيات المحلية، وهو ما وصفته بعثة الأمم المتحدة بأنه “اختراق حقيقي لجدار الصمت”.
يمثل حضور فرشيشي نموذجًا مشرفًا للكفاءات التونسية العاملة في البيئات الصعبة، ويجسّد التزامًا مهنيًا وإنسانيًا نادرًا في واحدة من أكثر مهام الأمم المتحدة تعقيدًا.

