يعد التعليم العالي أو الجامعي أحد المحركات الرئيسة لتحقيق مزيد من النمو الاقتصادي والازدهار وزيادة القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني. فالجامعات والمعاهد العليا ومؤسسات التعليم العالي رفيع المستوى تمد طلابها بمهارات وقدرات تعليمية رفيعة المستوى أيضا، إضافة بالطبع إلى توفير بيئة بحثية ثرية قادرة على تعزيز القدرات الإبداعية والابتكارية للطلاب، ما يصب على الأمدين المتوسط والطويل في زيادة الإمكانات الاقتصادية والتنموية للمجتمع.
تسود تلك القناعات لدى قطاعات اجتماعية كثيرة، فضلا عن أنها أفكار لا تنكرها معظم إن لم يكن جميع دول وحكومات العالم، وكثير من الدراسات والأبحاث الأكاديمية تبرهن على أهمية التعليم الجامعي في إحداث نهضة حقيقية في المجالات كافة.
لكننا نواجه الآن ما يشبه شكوى عالمية من ارتفاع مصاريف الالتحاق بالجامعات عامة والمميزة منها خاصة، وخطورة تلك الشكوى أنها تأتي في وقت يروج فيه البعض في ظل الانفلات الراهن على مواقع التواصل لعدم جدوى التعليم الجامعي، ما يدفع أسرا وطلابا إلى التساؤل والتشكك في جدوى قرار الالتحاق بالجامعة، خاصة مع ارتفاع مصاريف تمويل أربعة أعوام من الدراسة.
لهذا يظل التساؤل قائما ومشروعا لماذا ترتفع المصاريف الجامعية؟ هل الأمر مبرر؟ وكيف سينعكس ذلك على المجتمع اجتماعيا واقتصاديا؟ وهل هناك حل لمواجهة تلك المشكلة التي باتت تؤرق كثيرا من الأسر خاصة من أبناء الطبقة المتوسطة؟ هل يتجه التعليم الجامعي خاصة في الجامعات ذات المكانة الدولية المرموقة ليكون حكرا على أبناء الطبقات الثرية؟ هل يتحول التعليم من وسيلة للانصهار المجتمعي إلى آلية لمزيد من الاستقطاب الطبقي فيتوارث أبناء الأثرياء الثروة والمعرفة، ويستبعد أبناء الطبقة المتوسطة والفقراء من القدرة على الانتقال إلى مستوى طبقي أعلى لأنهم باختصار لا يستطيعون تحمل القدرة على دفع مصاريف الجامعة، فيكتفون بالتعليم المهني أو الجامعات منخفضة المستوى؟
وماذا عن الأصوات التي تتزايد على مواقع التواصل الاجتماعي ومن بينها ما يعرف بـ”المؤثرين” الذين يدعون أن هناك مبالغة في قيمة التعليم الجامعي، ومن الأفضل الاكتفاء بالتعليم الثانوي أو المهني منخفض التكاليف واستثمار الأموال التي كنت ستدفعها في الجامعة لبدء حياة “عملية” مبكرا، ما يعود عليك بفائدة “مالية أكبر” مستقبلا.
على مدار العقدين الماضيين زادت تكاليف التعليم في المؤسسات التعليمية ذات الأربع سنوات بنسبة بلغت 179.2 في المائة للطالب العادي، وفي الولايات المتحدة الأمريكية قفز متوسط تكلفة الشهادة الجامعية من 25707 دولارات أمريكية إلى أكثر من 218 ألف دولار وفقا لطبيعة المؤسسة التعليمية.
من جهته، يقول لـ”الاقتصادية”، البروفسير فرانز ديكسون أستاذ السياسات التعليمية التطبيقية في جامعة برمنجهام، “يمكن تفسير تلك الزيادة بعدة أسباب، فهناك زيادة كبيرة في الطلب مع رغبة عديد من الأشخاص في الالتحاق بالجامعة، ومع وجود سوق تنافسية في مجال التعليم العالي، ترفع بعض الكليات أسعارها لإيجاد تصور زائف أحيانا بالجودة، لكن هناك عوامل أخرى مثل نقص التمويل المقدم من الدول للجامعات، زيادة الخدمات الطلابية، وبالطبع زيادة الحاجة إلى أعضاء هيئة التدريس ودفع رواتب أعلى لاستقطاب الكفاءات.
ويضيف “منذ ثمانينيات القرن المنصرم حدث تغير في التعامل مع سبل توفير نفقات التعليم الجامعي الذي زاد وفقا لبعض الدراسات خلال الـ33 عاما الماضية بنسبة 213 في المائة، فالأجيال السابقة كانت قادرة على دفع تكاليف الالتحاق بالكلية بأنفسها بالأموال التي تجنيها من العمل في العطلة الصيفية، والذين ينتمون إلى أسر ثرية حصلوا بالطبع على مساعدة أسرهم، لكن منذ ثمانينيات القرن الماضي، قلصت عديد من الحكومات الدعم المقدم للجامعات، ما أجبر الكليات على رفع مصاريف الالتحاق، ولم يعد ما يحصل عليه الطالب من العمل في الإجازات الصيفية كفيلا بتمويل دراسته الجامعية، لذا لم يكن من خيار أمام جيل الألفية سوى الحصول على قروض ضخمة للتسجيل في الجامعات”.
وبالفعل يحمل عدد من الخبراء في المجال التعليمي الجزء الأكبر من المشكلة لنقص التمويل العام من الحكومات للجامعات أو انعدامه، إذ يمكن الحصول على التعليم الابتدائي والثانوي مجانا تماما، طالما أنك تلتحق بمدرسة تديرها الدولة، وذلك لأن الحكومة تخصص جزءا من ميزانية التعليم السنوية للمدارس العامة، لكنها لا تمول التعليم العالي بالكامل في عديد من الدول، حيث سيضغط ذلك على الميزانية العامة للدولة، ومن ثم يجب دفع رسوم للالتحاق بالجامعة.
في عام 2020 في الولايات المتحدة على سبيل المثال أسهمت معظم المجالس التشريعية للولايات بشكل أقل في التعليم العام مقارنة بعام 2008، ولم يكن ذلك حصرا على الولايات المتحدة إذ كان الأمر ظاهرة في دول عدة، وإذا أخذنا الارتفاع الراهن في معدلات التضخم عالميا، فيمكنا إدراك وجود تقلص حقيقي في المساعدات المقدمة للتعليم العالي.
يضاف لنقص التمويل العام أن الجامعات لديها تكاليف تشغيل أعلى من المتوسط، فالمباني الجامعية أضخم وأكثر تعقيدا في بنائها الهندسي، ومن ثم في تكلفة الإنشاء وصيانتها، وكثير من المواد العلمية المدرسة تستلزم استهلاكا ضخما لمعدات يستخدمها الطلاب في سنوات دراستهم الجامعية، وهناك حاجة إلى مكتبات ضخمة مزودة بكل ما يلزم الطالب الجامعي من كتب ومراجع حديثة، يضاف لذلك أن جزءا من فلسفة المؤسسات الجامعية خاصة في أغلب الدول الرأسمالية المتطورة وليس جميعها أن الجامعات مؤسسات مربحة وعليها أن تجني أموالا بعد تغطية تكاليف التشغيل.
مع هذا تشير الدكتورة جوليا ميتشل من معهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية قائلة “وسائل الراحة وأماكن الإقامة في الجامعات تلعب دورا رئيسا في زيادة التكاليف المؤسسية، والتكاليف الإدارية مرتفعة وتعزز زيادة المصاريف الدراسية للجامعات، وفي دراسة حديثة أجريت قبل عامين وجد أن الكليات تنفق على الخدمات الإدارية أكثر من ذي قبل، وبين عامي 2010 و2018 نما الإنفاق على الخدمات الطلابية بنسبة 29 في المائة والإدارية بنسبة 19 في المائة على التوالي، في حين أن الإنفاق على أعضاء هيئة التدريس نما بنسبة 17 في المائة فقط”.
وخلصت الدراسة حينها إلى أن الإنفاق المؤسسي مستمر في الارتفاع بينما يسهم بشكل ضئيل في معدلات التخرج.
لسوء الحظ أن المصاريف الجامعية ستواصل الارتفاع، وستزيد الرسوم الدراسية بوتيرة أسرع من معدلات التضخم، وفي الوقت الحالي يسعى عدد من الخبراء والباحثين لإيجاد حلول للتغلب على تلك المشكلة من قبيل الكليات عبر الإنترنت بوصفها وسيلة لدفع مبالغ أقل للتعليم العالي، لكن مشكلة هذا الخيار أنه لا يزال في نظر كثيرين يقدم جودة تعليمية أقل، وذلك رغم تشكك كثير من الدراسات في ذلك، فانخفاض أسعار التعليم الجامعي عبر الإنترنت تعود في جزء كبير منها إلى عدم الحاجة إلى حرم جامعي يحتاج إلى تمويل، إضافة إلى غياب عوامل أخرى مكلفة.
مشكلة ارتفاع المصاريف الجامعية أدت إلى بروز قضية الزيادة الضخمة في ديون القروض الطلابية، ووفقا لمعهد التنمية الأوروبي، فإن ديون القروض الطلابية وقبل حساب التضخم قد زادت بنسبة 2807 في المائة منذ عام 1970، وحتى بعد حساب معدل التضخم فإن الزيادة بلغت 317 في المائة.
ينظر آدم اليوت أستاذ الاقتصاد الاجتماعي في جامعة لندن إلى قضية ارتفاع مصاريف التعليم العالي في سياق التأثير السلبي المستقبلي على الاستقرار الاجتماعي، إذ يعد فكرة الانتقال الطبقي عبر التعليم ليس فقط ظاهرة صحية اجتماعيا واقتصاديا، وإنما تضخ في دماء النخبة التي تقود المجتمع دماء جديدة تنتمي إلى طبقات اجتماعية مختلفة، وهذا أحد المظاهر الصحية للمجتمعات الحديثة التي تنتفي عنها فكرة الجمود الطبقي واحتكار الثروة والثراء وإدارة المجتمع في يد مجموعة محدودة من الأشخاص الذين يتوارثون ذلك، لهذا تعد إتاحة التعليم العالي لأكبر قدر من الراغبين في إكمال مستويات تعليمية رفيعة أمرا يعود بالفائدة ليس فقط على الفرد، وإنما على الاقتصاد والنسيج المجتمعي ككل.
ويقول لـ”الاقتصادية”، “ربما يكون الخطر الأكبر والمباشر في زيادة الرسوم الجامعية ارتفاع الديون الطلابية ومن ثم السداد لسنوات طويلة بعد التخرج من الجامعة، ويؤدي ذلك إلى استبعاد كثير من الشباب الموهبين من الخلفيات الأقل حظا من الالتحاق بالجامعة على الإطلاق، خاصة أن النفور من الديون أقوى بين ذوي الدخل الأسري المنخفض، وبالتالي هناك خطر حقيقي على الحراك الاجتماعي في حال اعتبار رسوم التسجيل الجامعي باهظة”.
ويضيف “ارتفاع المصاريف الجامعية يدفع البعض إلى التساؤل هل الشهادات التعليمية تستحق العناء؟ والاجابة التي يجب أن تكون واضحة نعم تستحق العناء، وذلك رغم أن عديدا من الاسر والطلاب يشعرون الآن أن التكلفة الحالية للجامعة ذات قيمة منخفضة مقابل المال، لكن التخرج من الجامعة يظل مفيدا، فأحدث الدراسات تشير إلى أنه بحلول سن الـ29 يكسب الرجال 8 في المائة أكثر من نظرائهم الذين لا يذهبون إلى الجامعة، وتكسب النساء 28 في المائة أكثر، فالعوائد من التعليم الجامعي ستظل مرتفعة مقارنة بعدم الالتحاق بالجامعة حتى مع زيادة الرسوم الجامعية”.
وفي الواقع فإن أهمية التعليم العالي تزداد مع زيادة الحاجة إلى الابتكار والإبداع لإيجاد حلول للتحديات العالمية التي تواجه مجتمعاتنا في مختلف المجالات كالرعاية الصحية وحماية البيئية والتنمية، فأعظم التطورات في السنوات الأخيرة كالسيارات الكهربائية واللقاحات والحوسبة السحابية، والكمبيوتر فائق السرعة، والطاقة المتجددة، جميعها وليدة الأبحاث التي أجريت في الجامعاتأاو من قبل باحثين حاصلين على أعلى الدرجات التعليمية، ومن المؤكد أن لتلك الابتكارات قيمة اقتصادية عالية وتأثيرا إيجابيا في مجتمعنا.
بدوره، يقول لـ”الاقتصادية”، إدوارد نيلون الباحث في منظمة العمل الدولية “مع تقدم الاقتصاد نحو التوظيف القائم على الكفاءة ومع التركيز على المهارات والخبرات، يجب أن يكون خريجو النظام التعليمي مسلحين بأحداث أدوات المعرفة للعثور على عمل والنجاح فيه، لهذا مؤسسات التعليم العالي مهمة للغاية لأنها تعزز المستوى المعرفي لطلابها وتمنحهم مهارات جديدة وقدرة أعلى من أي مؤسسات تعليمية أخرى على التفكير العلمي والمنطقي والمنظم الذي يعد أساس النظم الاقتصادية الحديثة”.