Accueilافتتاحيةالتمشي الكارثة

التمشي الكارثة

في انتظار أن تكشف الأيام القادمة عن تفاصيلها تختتم اليوم الجولة الثانية من المفاوضات حول مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق بين الجمهورية التونسية والاتحاد الأوروبي التي انطلقت يوم الاثنين 28 ماي الجاري.

فبعد سنتين عن انعقاد الجولة الأولى يوم 18 أفريل 2016 ومنذ ذلك التاريخ لم يقدم الجانب التونسي تصوره لهذه المفاوضات باستثناء تصريحات عامة سواء للمفوض الرئيس السابق أو الحالي تتعرض في كل مرة لثلاثة نقاط لا غير، تتعلق الأولى بالاعتراف بفارق التنمية بين الطرفين وما يفترضه ذلك من ضرورة اتباع سياسة التدرج في مسار التحرير والانفتاح. أما النقطة الثانية فيحرص الجانب التونسي على التسويق لها وتتعلق باحترام البعد التشاركي عند الاعداد لهذه المفاوضات من خلال تشريك المجتمع المدني والخبراء الجامعيين وكل الأطراف المعنية.

أما النقطة الثالثة فتتعلق بمسألة حرية تنقل الأشخاص والتي اعتبرها المفاوض الرئيس التونسي من أهم النقاط الخلافية بين الطرفين.

فبخصوص النقطة الثالثة، يبدو أن المفوض الرئيس لمشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق وهو كاتب الدولة لدى وزير التجارة مكلف بالتجارة الخارجية يبدو أنه لم يستوعب بعد طبيعة وخصوصية مشروع «الاليكا» الذي يرمي الى تحرير قطاعي الفلاحة والخدمات وأيضا الاستثمار والذي وضع قواعده ومبادئه وحدوده الاتحاد الأوروبي بما في ذلك خطوطه الحمراء وأول هذه الخطوط حرية تنقل الأشخاص التي أخرجها من مشروع «الأليكا» لاعتمادها في مسار اخر مستقل بذاته.

هذه النقطة حسم فيها البرلمان الأوروبي في وثيقة التفويض التي منحها للفريق المفاوض باسمه والتي تمنعه من التفاوض بشأنها رغم طبيعة التفاوض حول قطاع الخدمات.

فبعكس انتاج واستهلاك السلع يتزامن انتاج أي خدمة واستهلاكها مع اسدائها فضلا عن أن اسداءها يتطلب في بعض الحالات الحضور التجاري لمسدي الخدمة. من جهة أخرى اذا كان تصدير السلع يتطلب تجاوزها للحدود الجغرافية المادية، فان تصدير الخدمة لا يتطلب ذلك دائما كما هو الشأن بالنسبة لقطاع الاتصالات والخدمات المرتبطة بالإعلامية والفضاء الافتراضي.

ففي ظل التطور التكنولوجي حاولت سكرتارية المنظمة العالمية للتجارة تقديم تعريف شامل للخدمات الموجودة وتصنيفها في 12 قطاعا مقسمة بدورها الى 155 ميدان أو نشاط وهذه الخدمات هي:

– خدمات الأعمال التجارية بما في ذلك الخدمات المهنية والخدمات المرتبطة بالإعلامية والبحث العلمي وخدمات الاتصالات وخدمات التشييد والخدمات الهندسية وخدمات التوزيع والخدمات التعليمية والخدمات البيئية والخدمات المالية (التأمين والبنوك) والخدمات الصحية وخدمات السياحة والسفر والخدمات الترفيهية والثقافية والرياضية وخدمات النقل وخدمات أخرى.

ورغم خصوصية النشاط الخدماتي وما يتطلبه من تنقل أو حضور تجاري لمسدي الخدمات فقد أغلق الاتحاد الأوروبي جميع الأبواب على المفاوض التونسي للخوض في مسألة حرية تنقل الأشخاص ليدرجها في مسار اخر مستقل تحت عنوان الهجرة.

وفي الوقت الذي لا يجد فيه مسدو الخدمات الأوروبيون أي صعوبة في الحصول على تأشيرة الدخول الى تونس بما يعني غياب حواجز أمام تنقلهم الى بلادنا، يصطدم مسدو الخدمات التونسيون بحواجز ومعوقات للنفاذ الى السوق الأوروبية.

اننا نستغرب قبول الجانب التونسي لهذا المنطق الأوروبي الذي يقوم على اختلال التوازن بين الطرفين والتمييز بين المواطنين التونسيين ومواطني الاتحاد الأوروبي. كما نستغرب قبول الجانب التونسي انطلاق المفاوضات على أساس إقرار الجانب الأوروبي لمبدإ الحماية لسوقه الخدماتية تحت غطاء «الهجرة» وفتحه لسوقنا الخدماتية أمام الأوروبيين دون قيود للاختفاء وراء منطق التدرج الذي يفقد معناه في ظل سياسة المكيالين التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي.

ورغم وضوح الموقف الأوروبي بخصوص هذه النقطة يواصل المفاوض الرئيس التونسي التعرض لها بطريقة تكشف عن أن الغاية من طرحها هو للاستهلاك الداخلي لا غير.

ولعل ما يثير الاستغراب أكثر في هذا الباب هو تبني أحد مكونات المجتمع المدني في تونس الترويج لتحرير الخدمات الإعلامية في تونس والذي لا يتطلب تنقل الأشخاص لإبراز المزايا التي يقدمها مشروع «الاليكا» للاقتصاد التونسي.

أما بخصوص النقطة الثانية والتي يحرص الجانب التونسي على التباهي بها كلما يتعرض الى مشروع «الأليكا» فتتعلق بالبعد التشاركي ودور المجتمع المدني والمنظمات المهنية والنقابية في مساندة الدولة التونسية في مسارها التفاوضي.

في هذا المستوى وظف الجانب التونسي هذا البعد لتقوية موقفه القابل بشروط وقواعد الجانب الأوروبي التي تحمي الاقتصاد الأوروبي على حساب الاقتصاد الوطني دون تحفظ للتسويق للمشروع كورقة مربحة للاقتصاد التونسي الذي سيزدهر بفضل الاستثمارات الأوروبية التي ستدخل الى تونس من جهة وفتح الأسواق الأوروبية أمام المنتوجات والخدمات التونسية من جهة أخرى.

في هذا السياق سعى الجانب التونسي الى ابراز أطراف في المجتمع المدني تجندت للترويج لمثل هذه الأحلام الوردية والتي هي من صنع خيالها حيث لا نجد لها أي أثر لا في الواقع المتدهور بسبب اتفاقية الشراكة لسنة 1995 ولا في الدراسات التقييمية لهذه التجربة ولا في دراسات اثار تحرير المبادلات التجارية في مجالات الفلاحة والخدمات والاستثمار في اطار مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق والتي لم تر النور بعد أو تم إنجازها بعيدا عن الموضوعية العلمية وخارج اطار متطلبات السيادة الوطنية.

أما بخصوص الاعتراف بعدم التكافؤ بين الاقتصاد التونسي والاوروبي والتي تشكل محور النقطة الأولى فان الاعتراف المتبادل به والاعلان عن اتباع سياسة التدرج في مجال التحرير وإقرار برامج تأهيل لا يعدو أن يكون خطابا للاستهلاك الاعلامي لا غير في ظل غياب الرؤية لدى الجانب التونسي وغياب التفويض البرلماني له للتفاوض باسم الجمهورية التونسية.

ان تعهد رئيس الحكومة يوسف الشاهد لدى البرلمان الأوروبي بالانتهاء من المفاوضات الجارية في نهاية هذه السنة للتوقيع على مشروع الاتفاقية في سنة 2019 يكشف عن استخفاف الجانب التونسي بخطورة هذا المسار الذي يهدد سيادتنا الوطنية من جهة، ويهدد بتدمير ما تبقى من مقومات المنظومة الإنتاجية الوطنية التي أصبحت فاقدة لكل أسلحة الحماية في مواجهة المستثمر الأجنبي والشركات العالمية.

 

 

مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة