Accueilافتتاحيةمن يحكم تونس اليوم

من يحكم تونس اليوم

تعالى صوت الاحتجاجات في بعض الجهات وبعض القطاعات ووصل الأمر في بعضها الى حدٍّ يهدّد بالفعل كيان الدولة.
واذْ نتفهّم حاجة الناس الى المطالبة بحقوقهم مِنْ أجل تأمين حياة حرة وكريمة فانّنا لا نستطيع التغاضي عن أولئك الذين لا ينتعشون الاّ في الفوضى والخراب وهُم في ذلك ومنْ أجل ذلك يسعون الى إطالة أَمَدِ الأزمات والى تعميم الدّمار وتحويل وِجْهَةِ مطالب المواطن المشروعة نحو بَاطِل عالَـمِهِمْ الانتهازي.
وغاية هؤلاء واضحة وجليّة وهي الوصول بتونس الى وَضعٍ يستحيلُ فيه على أيّ طرف ممارسة الحُكمِ وتنفيذ السياسات والبرامج ويستوي فيه العالمُ بالجاهلِ والذكيُّ بالغبيُّ والحابل بالنابل، فيتّخِذ الكلُّ في الفشل.
ولسنا في حاجة الى التدليل على صحّة ما نقول، فالجماعة جَهَرَتْ بعدُ بالدّعوة الى تعميم الفوضى تحت مُسمّى الاحتجاج على السياسات الحكومية والمطالبة بالحقوق، فمنهُم منْ استحضر فوضوية باكونين ودعا الى هَدْم الدار بمن فيها دون تقديم خطة للبناء وآخرين تُعْوِزُهُم الكفاءة والمعرفة بالشيء وقد قذفت بهم الصدفة الى واجهة المشهد السياسي فاستفردوا به وبالحُكْمِ وبـ«الغنيمة» وطاب لهم المقامُ فتفننوا في إحكامِ المنافذ حتى لا تتسلل الكفاءات الى «عالَمِهِمْ» الجديد وأثثوا كل ذلك بالشعارات «الثورية» وبالمبادئ والأخلاق.
وقد يكون هذا الأمر عاديّا، إذ أنّ دورَ المعارضة هو التصدي للسياسات الرسمية ولكن الأمر ليس كذلك، فالمعارضة المقبولة منطقًا هي تلك التي تقبل بقوانين اللعبة بمعنى أن الرابح في الانتخابات يحكُمُ والخاسر يعارض وذلك حتى حلول موعد الاستحقاق الانتخابي وهو موعد المحاسبة والتقييم وصاحب الأمر والنهي فيه هو المواطن..
ولكنّ الخاسر عندنا رفض ويرفض الانصياع الى ارادة الناخب فهو، إمّا غير قابلٍ بمنطق صندوق الاقتراع معتبرا أن الشعب أخطأ الاختيار عندما استثناه من خانة المفوضين للحُكم، أو أنه يرى من «المنطقيّ» أن يفرِضَ على الحاكم الجديد الذي أفرزته الانتخابات برنامج حُكمٍ غير ذلك الذي وقع انتخابه على أساسه.
وفي غياب تحقيق «شَرْط العازب…» هذا يكون البديل الدفع باتجاه الخراب والدّمار، هذا في جانب «المعارضة»..
وأمّا عن «التّحالف الحاكم» فالأمر لامسَ «السّريالية» أحزاب مشاركة في الحُكمِ وتمارس المعارضة في البرلمان وتتصدى لجلّ مشاريع القوانين التي تتقدّم بها الحكومة، مستقلون في الحكومة ينهشون يوميا «الحزب الحاكم» والحزب الثاني في الحكومة وهو حزب «النهضة» ساقٌ في الحُكمِ وأخرى في المعارضة وحزب حاكم لا يحكم ولكنّه مجبرٌ على دفْعِ فاتورة الحُكم!!
وقد يكون منَ المفيد التذكير بأن حزب «نداء تونس» الذي يُصنّف قانونيا وسياسيا الحزب الفائز في الانتخابات وهو صاحب «بَاتِيندَةِ» الحُكمِ، لا يَحتكمُ في حكومة الشاهد على أي حقيبة وزارية ذات ثقل اقتصادي واجتماعي ونصيبه في الحكومة يكاد يكون وزارات عناوينها الأساسية الأزمة كالتربية والنقل والسياسة والخارجية بكتابة دولة بلا صلاحيات، في حين أن وزارات هامة وأساسية كالمالية والطاقة والبيئة والفلاحة والشؤون المحلية والمرأة هي من نصيب مستقلّين أو أحزاب تراوح بين الموالاة والمعارضة.
واذا اعتبرنا أن طبيعة الازمة الحالية هي بالاساس اقتصادية واجتماعية وسياسية بالنتيجة فانه من الخطإ الفادح اعتبار «النّداء» الحزب الأول في الحكومة بما جعل كل السهام موجّهة له.. وفي المقابل يقع استثناء بقية الاحزاب المشاركة في «حكومة الوحدة الوطنية» والتي لا يتحد رأيُها وسياسات الأحزاب المكونة لها مطلقا، بل انّ بعضها يمارس دور المعارضة أو هي تدفع بمنْ يمارسها في الشارع والبرلمان..
حزب حركة «النهضة» على سبيل المثال يصنّف الحزب الثاني وهو ينفرد بوزارة الصناعة والتجارة (وزيرا وكتابة دولة) وهي كما يعلم الجميع العمود الفقري للاقتصاد الوطني، وهو يحتكم أيضا على قطاع الاتصالات الاستراتيجي (وزيرا وكتابة دولة) قطاع يوفّر 9 في المائة من الناتج الوطني الخام وتتبع «النهضة» كذلك وزارة التشغيل (وزيرا وكتابة دولة) وهي كما هو معلوم وزارة استراتيجية مرصود لها 250 مليون دينار لخلق مؤسسات صغرى للشباب وتتصرف في المرحلة القادمة في توفير 25 ألف عقد في اطار «عقد الكرامة»، وهي (النّهضة) الى ذلك تتمتّع بيدٍ طولى في وزارة الفلاحة التي توفر 13 في المائة من الناتج الوطني الخام رغم أنّ على رأس الوزارة وزيرا غير نهضوي. فهل يستقيم مع هذا تصنيفه كحزب ثانٍ في الحكومة؟! وهل يجوز لحزب يحوز على كلّ هذا الثّقل في الحكومة أن يكون له دور في احتجاجات الشارع تحت أيّ عنوان كان؟!
لقد حان الوقت لتسمية الأشياء بأسمائها، فحكومة الشّاهد التي حملت عنوان «حكومة الوحدة الوطنية» لا تتوفر على أبسط عناصر الوحدة والاتحاد على موقف أو سياسة وأن عملية انقاذ؟ المسار الحكومي تفرض نفسها، بدءا بعملية فرز ضرورية وتنقية أجواء الفريق الحكومي من شوائب المعارضة وشبهها،
حان الوقت لكي تفهم أحزاب الحُكمِ معنى التضامن الحكومي بالتخلي أولا عن سياسة «دَاخلْ في الربحْ خارجْ من الخسارة» وأن تتحمل كلها وِزرَ الأزمة والسياسات المتبعة..
والمطلوب الآن هو الاعتراف بفشل منظومة «حكومة الوحدة الوطنية» والاتجاه رأسا الى بناء تحالف حكومي حقيقي مبنيّ على تضامن حكومي فعلي يمارس وظيفة الحكم بجدّ ويتحمل مسؤولية الحكمِ..
وقد يكون من المفيد استحضار مثالين من تاريخ تونس الحافل بالعبر..
الأول يتعلق بقصة الامبراطور الروماني قورديان الأول الذي ظنّ أنه أصبح امبراطورا حقا بمجرد أن نصّبه ثوار مدينة الجمّ بمقاطعة افريقيا سنة 238 ميلادي، لكنه مات بعد شهر من تنصيبه في أول معركة مع الجيش النظامي.
المثال الثاني يهمّ الوزير الأكبر مصطفى بن اسماعيل، وهو المفضّل عند الباي والذي رغم جهله بأمور الدولة حيث كان حلاقا بسوق البلاط، مكنه الباي منْ الوزارة الكبرى سنة 1878 بعد أن قام بدور كبير في إسقاط الوزير المصلح خير الدين وكانت الكارثة التي سرّعت بانتصاب الحماية الفرنسية..
وحتى يتمّ تفادي كلّ أشكال «الحماية» بمعانيها التدميرية لبنية المجتمع وجب على يوسف الشاهد التحرك لتدارك الأمر ووجب بالخصوص على رئيس الجمهورية التدخل لتعديل المسار.. إنّ ايقاف النزيف ضرورة والتراجع عن الخطإ أفضل من التمادي فيه والكلّ يبتدئ بطرح السؤال الجوهري: من يحكُم تونس حقيقة؟!

+++ الهاشمي نويرة رئيس تحرير جريدة الصحافة اليوم

مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة