Accueilافتتاحيةالحياد المستحيل ***

الحياد المستحيل ***

تمثّل الإنتخابات القادمة لحظة فارقة ومفصلية لِجِهَةِ أنّها تفتح على فرضيتيْن إثنتيْن فإمّا هي مرحلة عُلْيَا من الإنتقال الديمقراطي وخطوة حاسمة نحو ديمومة الديمقراطية أو هي ستكون على العكس من ذلك إنتكاسة لها وأداة قد تؤسّس لاستبداد جديد.
وكان يُفترض أنّ هذه الإنتخابات سَتَجُبُّ نهائيا أخطاء سابقاتها وترسّخ فكرة الإنتخابات النزيهة لَوْلَا ما لوحظ من تجاوزات سبقت العملية الإنتخابية وأخرى شابت بدايتها.
ويبدو أنّ مسألة حيادية الإدارة تطرح نفسها بقوّة جرّاء تداعياتها وانعكاساتها المباشرة على العملية الإنتخابية ونتائجها.
وما يُثيرُ الريبة أكثر ما رَشَحَ عن أعضاء هيئة الإنتخابات من مواقف تعبّر عن مخاوف حقيقية إزاء جدّية إرادة الحكومة في ترْكِ الإدارة على حيادها خلال العملية الإنتخابية.
وبقطع النظر عن المظاهر الشكلية وغير الحاسمة في نتائج الإنتخابات لتدخّل الإدارة ومن ذلك الاستعمال العلني لوسائل الإدارة خلال كامل مراحل العملية الإنتخابية فإنّ ما يأتيه الماسكون بدواليب الدولة من أعمال خفية هي التي يجب أن تُوضَعَ تحت المِجْهَرِ.
إنّ الإدارة بمعناها الواسع هي بمقتضى القانون محايدة وتقف على نفس المسافة من جميع المتنافسين، وهو أَمْرٌ مفروضًٌ على الإدارات المركزية والجهوية والمحلية وحتّى على القضاء إحترامه بالكامل لأنّ حياد الإدارة في هذا الصدد يمثّل إحدى الضمانات الأساسية لنجاح الإنتخابات. 
ويبدأ تطبيق القانون في هذا الخصوص بإلزامية إستقلالية ممثّلي الإدارة ونأْيِهِمْ عن كلّ التجاذبات الحزبية والسياسية وغيرهما مثلما ينصّ على ذلك القانون.
ولا يبدو أنّ هذا ممكن الحصول أو التدارك الآن بسبب نظام المحاصصة الذي طبع أغلب التعيينات في الإدارة المركزية وبالخصوص في الإدارات الجهوية والمحلّية (أسلاك الولاة والمعتمدين وحتّى العُمَدِ ) وهو ما قد يؤثّر سلبا على نزاهة العملية الإنتخابية وشفافيتها. 
ومعلوم أنّ الأدوار الخفية وغير المعلنة التي يمكن أن تقوم بها بعض هذه الأسلاك الهامّة والحسّاسة يُمْكِنُ أن تُؤثّر في سَيْرِ العملية الإنتخابية وفِي نتائجها وهو ما يدعونا إلى لَفْتِ نظر هيئة الإنتخابات إلى ضرورة إيجاد الآليات الإستباقية الضرورية للحدّ من التدخّلات المحتملة للإدارة في سَيْرِ العملية الإنتخابية واعتماد أنظمة الردع القانونية في حال حدوث تجاوزات تُخِلُّ بنزاهة الإنتخابات وتضرب مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المترشّحين والأحزاب. 
إنّ التدخّل المحتمل للإدارة في الإنتخابات القادمة ليس المقصود منه بحال من الأحوال استعمال إمكانيات الإدارة الماديّة والبشرية واللوجستية في الإنتخابات القادمة -رغم أهمّيته -لأنّ ذلك سَهْلُ الرّصدِ والفَضْحِ والإدانة ، بل الأهمّ من ذلك هو توظيف السلطة الإعتبارية للدولة بمعنيْها الأُفُقي والعمودي لفائدة مترشّح أو أكثر في انتخابات الرئاسة كما في الانتخابات التشريعية.
إنّ الحاكم يتمتّع بنقاط أفضلية وأسبقية لمجرّد وجوده في الحُكْمِ وهذا قد يحدث حتّى في أعتى الديمقراطيات وأعرقها لأنّ الشعوب تكون ميّالة بطبعها إلى الإستقرار حتّى بالحدّ الأدنى المعيشي ويمكن لهذه الشعوب كذلك أن تستكين للحاكم وإنْ جَارَ واستبدّ لمجرّد أنّها ترى فيه الضامن لِلُقْمَةِ العيش ولِمَوْطِنِ الشغل، ولكنّ نقاط القوّة هذه ترتدّ إلى سيوف مسلولة ضدّ هذا الحاكم إذا قدّر مواطنوه أنّهم مَسْلُوبُو الكرامة وبلا سند معيشي يوفّر لهم الحدّ الضروري الذي يضمن لهم الحياة الكريمة. 
ويبدو أنّنا في تونس نعيش هكذا وَضْعًا نخشى فيه ومعه أن تسعى أطراف الحُكْمِ إلى تعويض ما يُفْتَرَضُ أن يوفّره لها وجودها في السلطة من أسبقية معنوية وفعلية على باقي منافسيها، تعويض ذلك بتحريك دواليب الدولة الخفيّة وتجنيدها لفائدتها في الإنتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة وهو ما سيُمثّل خرقا فاضحا للقانون ولمبدإ تكافؤ الفرص بين المترشّحين والأحزاب.
وما يدفعنا إلى الإعتقاد في هذا الرأي ،ما أسرّ لنا به عضو هيئة الإنتخابات أنيس الجربوعي الذي أكّد أنّ الحكومة حريصة على وَضْعِ تعريف لمعنى حياد الإدارة تُزَكّيه هيئة الإنتخابات وتقبل به وبحسب ذات المصدر فإنّ هاجس الحكومة كان يتمثّل في حصولها على إجابة هيئة الإنتخابات بخصوص سؤال محوري بالنسبة إليها وهو متى تعتبر الهيئة أنّ الإدارة خرجت عن حيادها ؟ 
ولا يخفى على أحد أنّ طَرْحَ الحكومة للموضوع من هذه الزاوية قد يكون مقدّمة لنيّة أطراف الحُكْمِ الحالية إستعمال دواليب الدولة المعلنة والخفية، ويبقى السؤال بالنسبة إلى هذه الحكومة هو إلى أيّ مدَى وَحَدٍّ يُمْكِنُ لهيئة الإنتخابات أن تقبل بذلك انطلاقا من تحديدها لسقف التجاوزات.
ولسنا في حاجة إلى التذكير بأنّ استقلالية قرار هيئة الإنتخابات هي أيضا ضمانة هامّة وأساسية لنزاهة الإنتخابات وشفافيتها وهو ما يفرض على هذه الهيئة أن تكون صارمة في الدفاع على استقلاليتها ضدّ كلّ من يسعى إلى استغلال وضعه في السلطة لجرّ الهيئة إلى أَمْرٍ واقِعٍ يُفقدها تدريجيا السيادة على قرارها وهو ما سيضرب في العمق عملية الإنتقال الديمقراطي ويُجْهِضُ عملية التأسيس لديمومة الديمقراطية. 
بالأمس إستقبل رئيس الجمهورية محمد الناصر رئيسَ الحكومة يوسف الشاهد، الناصر أكّد خلال هذا اللقاء على «ضرورة العمل على ضمان المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المترشّحين وعلى حياد الإدارة بما يضمن شفافية ونزاهة العملية الإنتخابية».
موقف الرئيس والرئاسة كان صارما وقويّا ومطلوبا ومنسجما مع مبادئ الدستور وموجّها مباشرة لمن يهمّه الأمر، هذا ما أراد الناصر حمايةً للدستور وللعملية الديمقراطية ويوسف الشاهد له هو الآخر ما يريده والمواطن سيفعل بالتأكيد ما يريد رغم أنّه ثمّة ما يدفع إلى القول بأنّ الإدارة لم تتعاف من مرض الإنتهازية المزمن. 
إنّ مبدأ حيادية الإدارة يشكو إذن من إرث الإنتهازية الذي نخر جسدها على مدى السنوات الطوال، هذه الإنتهازية التي أضحت عارية وبلا حياء بعد 2011 قد لا تمكّن الهيئة من التعويل على حيادية الإدارة لتأمين انتخابات نزيهة وشفّافة . 
إنّ القانون يفرض الحيادية ويرتّب على عدم احترامها عقوبات وإنّ الأخلاق تفرض على المترشّحين لتمثيل الشعب مهما كان المنصب المقصود إحترام قواعد اللعبة الديمقراطية والمساواة بين المترشّحين وعدم استعمال الغشّ لأنّ «الفوز» الملوّث بأدرانِ الغشّ والإنتهازية والكذب عمره قصيرٌ قصيرٌ قصيرٌ «ياوَلَدِي».

*** الهاشمي نويرة رئيس تحرير الصحافة اليوم

مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة