Accueilالاولىنحن والحريّة بين التأصيل القرآني وهواجس الثقافة المعولمة - الجزء الاوّل

نحن والحريّة بين التأصيل القرآني وهواجس الثقافة المعولمة – الجزء الاوّل

غفران حسايني إعلامي وباحث دكتورا في الحضارة والفكر الإسلامي

كان الدكتور زكرياء إبراهيم في مقدّمة الطبعة الأولى من كتابه “مشكلة الحرية” ضمن سلسلة مشكلات فلسفية قد ألمح إلى مدخل عميق لقضيّة الحرية في الفكر البشري منذ فجر التاريخ حين عدد زوايا النظر التي يمكن لكل متأمّل او باحث او كاتب يجهد لاستيعاب  هذا الاشكال الوجودي الخطير أن يتدبّرها بالقول “أن مشكلة الحرية بالذات من أكثر المسائل الفلسفية اتصالا بالعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة فضلا عن صلتها الواضحة بمشاكل ما بعد الطبيعة[1] ، و عقّب  في الأثناء على ذلك بتأصيل فلسفي لقضية الحرية في مجالها الميتافيزيقي الأصيل مع تعدد الجوانب الأخرى وثيقة الصلة بالسياسة والقانون الواضع لشروط الحرية وحدودها ومسؤوليتها وأخلاقياتها وبكون الحرية حقيقة متافيزيقية لا سبيل إلى فهمها إلأ في نطاق الوجود الإنساني بأكمله.[2]

أردنا من خلال هذا التقديم أن نشير إلى أن طرح قضيّة الحرية بالأمس واليوم لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تخرج عن دوائر التفكير المتعددة المجالات  ولا يمكن اختزالها ضمن حقل معرفي واحد قانوني او تشريعي أو اجتماعي أو سياسي أو ديني أو أخلاقي طالما انها قضيّة وجودية تتداخل فيها كل هذه العناصر ليكون البحث في الحرية بمثابة دراسة شاملة للوجود الإنساني باكمله وتبقى كل دراسة مستقلّة عن هذا التداخل محاولة لحل لغز كبير واشكال قائم من وجهة نظر واحدة ومعزولة.

الرؤية الدينية للإنسان ومسألة الحرية. كان الوضع القديم لفكرة الإنسان في الأديان السماوية السابقة قبل القرآن مرتكزة على فكرة الخطيئة والذنب والمعصية ، فبحسب التراث الديني اليهودي أخرج الإنسان من مجاله الأّول

الجنّة إلى حياة الأرض عاصيا مطرودا معاقبا دون سابقة خطّة إلهية مرسومة بل جاء وجود الإنسان على  الأرض عارضا ومرتبطا بمعاصيه ونوازع الشر الكامنة فيه، فحياة الإنسان على الأرض في اللاهوت اليهودي متصفة بالعقوبة من جهة والاستمرار في الشر من جهة أخرى وصارت الأرض ملعونة بفعل ذلك  حتى أراد الله أن يمحو الإنسان منها كما ورد في سفر التكوين في الإصحاح الثالث والسادس فصورة الإنسان وفق هذه الرؤية مبنية تقريبا على ثلاثية المعصية والعقوبة والاستمرارية في الشر وهو ما يجعل من قضية حريّته إشكالا قائما على مستوى طبيعة النص الديني في حدّ ذاته التي ألبست بالإنسان صورة المخلوق المتمرّد والعاصي والمنبوذ والمتسبب في السوء.  ثم جاءت المسيحية بفكرة الخطيئة الكبرى  الموروثة والمسببة لشقاء الإنسان الذي ارتبط في التفكير المسيحي بشيء من التشاؤم حوله وهو ما أشار إليه القديس أوغسطين (ت430 م) الذي يعدّ أكبر أباء الكنيسة على الاطلاق حين رأى أن الإنسان في هذه الدنيا ليس جزءا من الطبيعة بل هو غريب عنها وتاريخه يتلخص في أنه مذنب بالنسبة إلى أصله السماوي تغلب عليه الأنانية والجري وراء اللذات لذلك لا بد من تقييد حريته بسلطة الكنيسة التي تربّي الناس [1] وتردعهم وقد انسابت هذه الأفكار القائمة على رؤية قاصرة للإنسان عند القديس توماس الأكويني Thomas Aquin (ت.1273 م) والفيلسوف المسيحي بسكال Pascal (ت.1662 م) في النظر إلى الانسان بوصفه مخلوقا متناقضا وأنانيا وبائسا وهو ما ولّد اشكاليات نصيّة ولاهوتية كبرى في سبيل تحرر الإنسان في الفكر المسيحي أطلق عليها الدكتور حسن القرواشي في أطروحته للدكتورا بـ “الذعر المرضي من الحريّة” [2] وهو ذعر شبيه بذعرنا نحن كمسلمين من جانبه النفسي ولكنه مخالف  في إشكالياته  القائمة في الفكر الإسلامي التي نراها عوائق تحرر على مستوى الفهم والممارسة الدينية والسياسية

على مصرعيه بكل أشكاله ووسائله القائمة انطلاقا من طبيعة الإنسان الحر والمتحرر فطريا

التأصيل القرآني لفطرة التحرر الإنساني

 صحيح أن كلمة حرّية لم ترد في القرآن بهذا اللفظ مطلقا  وإنما وردت اشتقاقات عنها من قبيل “الحر” و”التحرير”في سورتي البقرة الأية 178 في قوله تعالى :”يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ ” وفي سورة النساء الآية 92 في قوله تعالى “فدية مسلّمة إلى أهله وتحرير رقبّة ” وورد لفظ “محررا” في سورة آل عمران الآية 35 في قوله تعالى “إنّي نذرت لك ما في بطني محررا ” و قد ذكر الإمام القرطبي في تفسيره أنّها مأخوذة من الحريّة التي هي ضد العبودية ،ومن هذا تحرير الكتاب ، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد” [1] .

إلا ان ما يمكن الإقرار به أن قضيّة الحرية في القرآن متناغمة تماما مع صورة الإنسان الذي يحظ بمكانة كبيرة عندما يتكلّم القرآن عن خلقه الاوّل في عالم غير هذا العالم وعن طبائعه وصفاته وإرادته وقوته وضعفه وكرامته وأن مجيئه إلى الأرض لم يكن أمرا عارضا بل خطّة إلهية مرسومة بعد ذلك التكريم الالهي والتفضيل الذي طاله لحظة الخلق “ولقد كرمّنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”  (الاسراء ،الآية 70) ثم جاءت مقومات التحرر الانساني بتقويم الخلقة في قوله “لقد خلقنا الإنسان في احسن تقويم” (سورة التين ، الآية 4) والتي اعتبرها الإمام ابن عاشور في تفسيره تقويما فطريا نقيا وليس تقويما خلقيا جسديا كما ذهب إلى ذلك أغلب المفسرين . ومن هنا يمكن أن نجد مدخلا للتأصيل الفطري لحرية الإنسان وفق التقرير القرآني وقد خلق (أي الإنسان) خلقا أصيلا مستقلا  بفطرة نقية متحررة من كل الأغلال والقيود متناغمة مع علّة الخلق وغايته ومنسجمة كونيا مع تعلّق المخلوقات تعلّقا وجوديا بالخالق في قوله تعالى :”فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله “(سورة الروم الأية 30، مع

ملاحظة أنّ فطرة وفق الرسم القرآني في هذه الآية تكتب تاؤها مفتوحة) والفطرة في تعريف الإمام ابن عاشور وقد رأى أن معناها لم يتقن أحد الافصاح عنه بالقدر الكافي هي ” النظام الذي اوجده الله في كل مخلوق ،ففطرة الإنسان أي ما خلق عليه ظاهرا وباطنا جسدا وعقلا [1] ولا ريب ان فطرة الله للإنسان كانت فطرة الحريّة وهذا ما أقره الحديث الشهير لعمر بن الخطاب بقوله لعمرو بن العاص “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا “أي أن الحرية لحظة الولادة هي النقاء من كل شوائب البشر وتسلّطهم على غيرهم من الناس أو ما أطلق عليه الإمام ابن عاشور بالفطرة النفسية وهي الحالة التي خلق الله عليها النوع الإنساني سالما من الاختلاط بالرعونات والعادات الفاسدة . [2] ولا ريب أن كل نقيض للحرية بشكل عام من عبودية ورق وتسلّط وتضييق يعد خرقا لفطرة الحرية الانسانية.

لذلك كانت دعوة الإسلام الأولى لعتق الرقاب وتحرير العبيد عملا ثوريا بامتياز في مجتمع إنساني حوّل الاستعباد إلى سنّة بشرية في كل حضارات العالم أين ظهرت العبدوية مقترنة بظهور الحضارات الانسانية القديمة أي عندما بدأ الانسان يأخذ بأسباب التمدّن وتعمير الأرض[3] فكانت دعوة الاسلام للتحرر صرخة في وجه نظام عالمي شمولي وقمعي وتسلطي وعودة بالانسان إلى فطرته الأولى خاصّة عندما كانت جذوة الإيمان متقدة في نفوس المسلمين تحثهم على المسارعة إلى عتق رقيقهم احتذاء بسلوك النبي الذي اعتق قبل موته جميع ما كان بحوزته من رقيق واتبع المسلمون ذلك بعتق الرقاب أفرادا وجماعات [4]


[1] – محمد الطاهر بن عاشور ، مقاصد الشريعة الإسلامية ، دار سحنون للنشر والتوزيع ، ط 2 تونس 2007 ،ص 55.

[2] – المرجع نفسه ،ص ،56.

[3] -توفيق بن عامر ،الحضارة الاسلامية وتجارة الرق ، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس سلسلة 8، مجلد 7، 1996 ،ج 1 ،ص 20 .

[4] –  المرجع نفسه ،ص 96 وما بعدها .


[1] – الإمام القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ،ج 4 ، ص 66.


[1] -أنظر الملتقى الإسلامي المسيحي الثالث حول حقوق الإنسان ،قرطاج ماي 1982  ،مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية ، سلسلة الدراسات الاسلامية (9) تونس 1985. ص 293.

[2] – حسن بن خميس القرواشي ، الفكر المسيحي الكاثوليكي في مواجهة الحداثة من المجمع الفاتيكاني الأوّل إلى المجمع الفاتيكاني الثاني ،كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس ،السلسلة 8 ،المجلّد 12 ،ص 20.


[1] – زكرياء إبراهيم ، مشكلة الحرية ، سلسلة مشكلات فلسفية 1- -،مكتبة مصر ،ط3 ،1972 ،ص 10

[2] – نفس المرجع ،ص 10

مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة