Accueilالاولىالنائب الصحبي بن فرج يكشف عن التفاصيل الدقيقة لتفجيرات سوسة والمنستير

النائب الصحبي بن فرج يكشف عن التفاصيل الدقيقة لتفجيرات سوسة والمنستير

في صائفة 1987، كانت سلطة الزعيم الحبيب بورڤيبة تلفظ أسابيعها وأشهرها الأخيرة على وقع وضع إقتصادي واجتماعي خانق زاده تأزما مؤامرات القصر وحروب الخلافة مع صعود لافت لنجم الجنرال زين العابدين بن علي وزير الدولة للداخلية
في تلك الصائفة إشتعلت المعركة بين الدولة وحركة الاتجاه الاسلامي وتصاعدت منذ إيقاف زعيمها السياسي ورمزها الروحي راشد الغنوشي، وسرت أنباء ملحّة أن بورقيبة يريد رأس الغنوشي مهما كان الثمن.
في تلك الأجواء قررت مجموعة من شباب وكوادر الحركة المرور أخيرًا إلى الفعل العنيف……
لم تكن عملية تفجيرات الفنادق المنستير وسوسة الوحيدة في سجل المجموعة، فقد سبقتها عملية إلقاء ماء الفرق على مسؤول دستوري بڤابس (حوكم من أجلها بولبابة دخيل بالإعدام) وعملية إحراق المستودع البلدي بسوسة أين توجد مجسمات لمهرجان أوسّو الذي يسبق عيد ميلاد الزعيم.
تقول أوراق القضية أن المتهم الرئيسي فتحي معتوق (ثابت الانتماء الى حركة الاتجاه الاسلامي في جامعة سوسة وخارجها) قد تلقى الأوامر من محمد الشملي وعبد المجيد الميلي(القياديين بالحركة) للقيام بعملية التفجير
وبناءً على ذلك، طلب فتحي معتوق من محرز بودڤة(تقني في الكهرباء ويشتغل بمعمل الإجر) تصنيع متفجرات موقوتة بغاية زرعها وتفجيرها
إستجاب محرز بودڤة ، وصنع القنابل وسلمها الى فتحي معتوق دون أن يعلم أين ومتى يقع استعمالها ولا أسماء من سيتكفل بالتنفيذ.
حال تسلمه المفرقعات قام فتحي معتوق باختيار عناصر من الحركة ممن شاركوا معه في إحراق المستودع البلدي وعرض عليهم خطته لزرع المتفجرات (او الفوشيك كما كانوا يطلقون عليها) في نزل مختلفة بالمنستير وسوسة ، ثم توزعوا على فرق عمل صغيرة توجهت نحو نزل الهناء بيتش(لطفي القروي) ونزل حنبعل بلاص(لطفي الحبشي) ونزل قوريا بالاص (عبد الحفيظ بن خليفة) ونزل صحراء بيتش(فتحي معتوق)
طابع الارتجال والسرعة طغى على كامل العملية، إذ تفطن عمال الفنادق الى أغلب القنابل الموقوتة وقاموا بإخراجها من النزل حيث انفجرت في أماكن خالية من المدنيين بينما كانت القنبلة الأكثر خطورة وإضرارا هي تلك التي انفجرت في الملهى الليلي بنزل صحراء بيتش والتي أدّت إلى بتر ساق سائحة انڤليزية( Hélène Estroki ) ولم تُسجّل بالتالي أي حالة وفاة بين المصابين ال13.
مباشرة بعد العملية، تداعت المجموعة الارهابية الى مقهى السلام بسوسة حيث اتفقوا على الافتراق وتفادي الضهور العلني تحسّبًا لانكشاف امرهم
هزّ خبر الانفجارات وجدان التونسيين وتحركت الآلة الأمنية بأقصى طاقتها، وتذكر المحققون واقعة ً تعود الى شهر جوان 1987 حيث تم إيقاف ما يعرف بخلية جمّال التي كان عناصرها يتدربون على صنع المتفجرات، وبالتحقيق معهم مجدّدًا تبيّن أن هناك عنصرًا أخرَ في الخلية وقع التستر عنه وبقي طليقا وهو المدعو………محرز بودڤة.
ألقي القبض إذًا على محرز، وسرعان ما اعترف بتصنيعه المتفجرات وتسليمها لفتحي معتوق(مع التذكير أن محرز بودڤة لم يكن يعلم شيئا عن العناصر المكلّفة بالتنفيذ)
هنا، كان واضحا أن القبض على فتحي معتوق سيؤدي بالضرورة الى الايقاع بجميع عناصر المجموعة……ولكن.
في يوم 8 أوت، تم تهريب فتحي الى تونس العاصمة على متن سيارة يقودها صلاح الدين التليلي وهو من أعوان الحرس الوطني ، فيما تكفل طرف ثالث بتهريبه نحو الجزائر حيث وقع إيواؤه عند نجيب القروي(إبن الوزير حامد القروي والمنتمي الى حركة الاتجاه الاسلامي).
هُرّبَ إذًا فتحي معتوق وغُيّبت بذلك جميع أسرار العملية ومنفّذيها ومدبريها ومخططيها ……. وأصبح بالضرورة محرز بودڤة المتهم الوحيد بحالة إيقاف والمورّط مباشرة في القضية والذي سيحمل لوحده وزره ووِزْرَ الجميع، ويواجه حتما عقوبة الإعدام.
اعترف محرز بودڤة لهيئة محكمة أمن الدولة (ولرفقائه في السجن) بتصنيعه القنابل وحصر ارتباطه التنظيمي بفتحي معتوق ونفى اي علاقة له بقيادات الاتجاه الاسلامي، وطلب الصفح والرحمة من هيئة المحكمة.
وصدرت الأحكام : الإعدام لمحرز بودڤة(حضوريًّا) وفتحي معتوق وَعَبَد المجيد الميلي(غيابيا) وعشرون سنة سجنًا غيابيا لمحمد الشملي
ونفّذ حكم الأعدم شنقًا في محرز بودڤة وبولبابة دخيل في الأسبوع الثاني من أكتوبر 1987 بعد إقرار الحكم في طور التعقيب ومصادقة رئيس الجمهورية
لم تنتهي القصة……..
في شتاء 1993، وفي ضروف غامضة ، قام أحد أفراد مجموعة التنفيذ، بالتبليغ عن عناصرها وحصل على ما يبدو في المقابل على ضمانات بحسن المعاملة والحكم المخفف، وبناءً على ذلك ألقي القبض على كامل أعضاء المجموعة وأحيلوا في مارس 1994 على المحكمة الجنائية بتونس برئاسة القاضي فرحات الراجحي،
واعترف أغلب المتهمين بجرائم حرق المستودع البلدي ووضع المتفجرات وعدم الابلاغ عن جريمة وتهريب المتهم فتحي معتوق.
وصدرت الأحكام يوم 12 أفريل 1994 وتراوحت بين العشرين سنة سجنا نافذة وعامين مؤجلة التنفيذ ليسدل بذلك الستار “قضائيا” على أول عملية إرهابية في التاريخ التونسي المعاصر……..
هذا ما تقوله أوراق القضية، ومقالات الصحف التي غطت فعاليات المحاكمة وشهادة بعض من تجرأ على الكلام ممن عاصروا تلك الفترة أو من أسعفنا القدر(وهم قلّة) لننقل عنهم ما سمعوه مباشرة من محرز بودڤة عن تفاصيل الأشهر لأخيرة من حياته.
هذه ما يقوله القضاء والوثائق والشهادات العمري،نجيب القروي،أحمد المناعي،فرحات الراجحي وغيرهم ….) بينما يحتفظ الجانب السياسي للعملية بأغلب أسراره، ويترك وراءه جملة من التساؤلات والملاحظات:
اولا، يجب الإشارة للامانة، أن كل المتورطين في العملية صرّحوا بعد إيقافهم ، بأن الغاية من عملهم لم تكن إحداث أضرار بشرية أو مادية، بقدر ما كانت رسالة إلى الرئيس الحبيب بورڤيبة بأن الحركة قادرة على ضرب رمزيته (يوم عيد ميلاده) وضرب مدينته (المنستير) وضرب مفخرة الدولة التونسية (القطاع السياحي) وأن زعيم الحركة يمثّل خطّا أحمرًا وأن إعدامه سيشعل البلاد من أقصاها إلى أقصاها.

ثانيا، محرز بودڤة (وبقية الموقوفين) تعرضوا فعلاً للتعذيب الشديد خلال فترة البحث والاستنطاق.
كما ان محاكمتهم تمت أمام محكمة إستثنائية (أمن الدولة) التي لا توفّر ضمانات المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع ولكن، ……..
هل يعني كل ذلك أن محرز بودڤة بريئ من جريمة صنع المتفجرات؟ وأن بقية المتهمين (محاكمة 1994) أبرياء من تهمة التفجير والحرق؟
بالتأكيد لا
فالثابت إن محرز بودڤة اعترف صراحة بما اقترفه، وبكل تلقائية وبدون ظغط مادي أمام رئيس محكمة أمن الدولة
والثابت أيضا أن محرز بودڤة كان يتحدث لرفاق الزنزانة (ولزوّاره من العائلة) عن مسؤوليته في تصنيع المتفجرات، وكان حديثه الأساسي في سجنه يتمحور حول “الشهادة “التي أكد له “أحد الشيوخ” أنه سينالها حتمًا. ….
لم يكن له أدنى شكّ أنه سيحاكم بالإعدام ، وأنه سيُعدم بعد المحاكمة………
والثابت أخيرا، أن القاضي فرحات الراجحي أكد في شهادته أن المتهمين(مجموعة التنفيذ/محاكمة 94) إعترفوا أمامه بما نسب اليهم بدون ظغط مسلّط عليهم.

ثالثا، هل حُمّل محرز بودڤة مسؤولية العملية لوحده؟ بموافقته؟ أم بفعل تآمر خفي أو توافق ضمني؟ هل تخلَّت عنه المكينة حفاظا على ما هو أهم؟ لا أحد بإمكانه القطع بذلك …..كما لا يمكن التهرب من هذه التساؤلات المشروعة

رابعا، هل ثبت انتماء عناصر المجموعة إلى حركة الاتجاه الاسلامي؟
الجواب هو قطعًا بنعم ويكفينا دليلا على ذلك تصنيف محرز بودڤة كأحد شهداء حركة النهضة(إلى جانب بولبابة دخيل منفذ عملية ڤابس) وأيضا تواجد أشخاصا آخرين متورطين في عملية المنستير ضمن الكوادر المحلية والجهوية للحركة(حاليا).
هل كان عمل المجموعة معزولا ومحدودا في دائرة ضيقة من الإسلاميين بما يُشبه “تحرير المبادرة” الصادرة عن قيادة الحركة عام 1990؟ أم أنهم ارتبطوا بسلسلة قيادية في الحركة أعلى رتبة من فتحي معتوق؟
لا أحد بإمكانه الإجابة بالدليل القاطعٍ على ذلك خاصة مع فرار العقل المدبّر للعملية فتحي معتوق وغياب اعتراف صريح من المتهمين بمشاركة عبد المجيد الميلي ومحمدالشملي في التخطي للعملية ولكن….
كل المؤشرات تدل في الحدّ الأدنى، على وجود تنظيمٍ سري داخل الجماعة تولى التخطيط والتنسيق والدعم واللوجستيك وتهريب المتهم الرئيسي فتحي معتوق، عقدة الربط الوحيدة والثابتة بين أعضاء المجموعة والقيادة العليا للتنظيم.

خامسًا، هل كانت العملية مفبركة مخابراتيا بعلم الجنرال بن علي لتعفين الوضع بين بورڤيبة والإسلاميين؟
الوحيد الذي طرح هذه الفرضية هو الدكتور عمر الشاذلي الطبيب الخاص لبورقيبة ثمّ تبنتها ضمنيا بعد الثورة قيادة حركة النهضة، ومن الواضح أنه كان ينقل انطباعا ترسخ لدى كل من كانوا يعارضون صعود الجنرال بن علي وينقمون عليه لسوء معاملته للزعيم بعد إزاحته من الحكم.
وقد يكون السؤال الأقرب الى مسار القضية هو التالي: هل كان بن علي على علمٍ مسبق بالعملية؟ وهل ترك الأمور تسير نحو الصدام النهائي بين الحركة والنظام بما يسهّل له عملية الصعود الى منصب الوزير الأول ثم إلى الرئاسة؟
تبدو هذه الفرضية شديدة التعقيد وبدون أي دليل أو شهادة جديّة بل وتفترض حكمًا ومنطقًا وجود تواطئًا وتنسيقًا بين بن علي وقيادة حركة الاتجاه الاسلامي من البداية إلى النهاية
فظلا عن أن وقوع عملية إرهابية في المنستير في يوم ميلاد الزعيم بورڤيبة كان من الممكن أن يؤدي إلى عزل وزير الداخلية وهو ما لا يمكن أن يقامر به بن علي.

أخيرًا، لماذا تجاهلت الحركة موضوع محرز بودڤة بعد السابع من نوفمبر وانفراج علاقتها ببن علي؟ لماذا لم تدافع عن “براءته” (وبراءتها) من العملية طيلة سنوات بن علي؟ كيف تبرر الحركة تأييدها المطلق لبن علي في أول عهده رغم “يقينها” بأن أحد أبنائها محكومٌ عليه “ظلما” بالإعدام في قضية “مفبركة”؟
لماذا لم تعمل الحركة وهي التي كانت(ولا تزال) في السلطة على الاستجابة للمطلب الوحيد لعائلة بودڤة وهو استرجاع رفاته ودفنها في جمّال بينما تسرع الى تكريمه واعتباره شهيدًا وتفتح ملفًّا كنّا نخاله أغلق أو من إختصاص العدالة الانتقالية ؟ لماذا لم تنشر حركة النهضة روايتها للأحداث وهي الوحيدة القادرة على الوصول إلى أغلب الفاعلين والشاهدين على هذه القصة ؟
فصلٌ مؤلم وخطير وغامض من تاريخ تونس السياسي، كان من الأسلم والأحكم تركه لآلية العدالة الانتقالية والمختصين والباحثين والشهود العيان (وهم أحياء يرزقون)
وما كنت لأخوض فيه لولا ما وقع في الأيام الفارطة

النائب الصح

مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة