Accueilافتتاحيةنسير بخطى ثابتة نحو الهاوية

نسير بخطى ثابتة نحو الهاوية

عندما قال السّابقون مِنْ أصحاب الفِكْرِ أنّ التّاريخ لا يُعيدُ نفسه إلاّ في شَكْلِ مَهْزَلَةٍ ومَأْسَاةٍ، فإنّما هُمْ نَطَقُوا بما أَمْلَتْهُ عَلَيْهِمْ قراءاتهم المتأنّية لما جرى ويجري في العَالَمِ، هُمْ استوعبوا تاريخ الأمم والشّعوب واستخلصوا الدّرس وقدّموا لنا زُبْدَةَ معارفهم ونحن حينئذ إمّا أن نَتَّعِظَ أَوْ لا نتّعِظَ.
ومِنَ المؤسِفِ والمُهِينِ لمُجْتَمَعٍ قَلّما عَرَفَ مجتمعا آخر مِثْلَهُ تمازجًا وتنوّعًا حضاريّا مَا بوّأهُ مكانة مدنية رائدة، أن يصل إلى هذا المستوى المتدنّي مِنَ الانْحِدَار المعرفي والقيمي وإلى هذا الجَهْلِ السّياسي الذي قاد مجتمعنا ويقوده حتما الى حَالَةٍ مِنَ الأزمة والدّمار اللذينِ قد يستحيل تداركهما لاَحِقًا.
وانّ ما نعيشه اليوم مِنْ أَزْمَةٍ سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة خَانِقَةٍ يُدَلِّلُ بوضُوحٍ أنّ نُخَبَنَا السياسيّة والحزبية والحقوقية تاهَتْ بأغلبها السّبل وأَصابها عَمَى الصّواب وتكاد تكون فَقَدَت إلى الأَبَدِ رِيَادتها في قيادة العامّة وتوجيهها وأصبحت ذات «فِكْرٍ» وممارسة وانتهازية وشعبويّة تُلامِسُ البذاءة وهي فيما يبدو مواصلة ومسترسلة في غَيِّها، غير عابِئَةٍ بتداعيات سلوكياتها على مستقبل البلادِ والعبادِ.
أزمة عامّة رَهَنَتْ أصحاب العَقْلِ ـ وهُمْ قِلَّةٌ ـ وحَكَمتْ على فِكْرهِمْ وعَمَلِهِمْ بالعُقْمِ وأَطْلَقَتِ العِنَانَ للجَهَلَةِ مِنّا فعاثوا في الأرض وفي الحُكْمِ فسَادًا.
ونكاد نَجْزُمُ بأنّ مانعيشه الآن هو مِنْ أَخْطَرِ الأزمات التي عرفها تاريخ تونس، وهي خطورة نَابِعَةٌ أساسًا مِنْ كون أطراف الأزمة لا يَدْرون ما يفعلون لِجَهْلٍ سياسي ومَعْرِفي وبقواعد تسيير الشّأن العام وبشؤون الحُكْمِ عَامَّة أو لأنّ الطّمع والحِقْدَ على البلاد والمواطن والانتهازيَة فتحت أمام البعض مِنْهُمْ طُرُقًا قادتهم إلى أجندات خارج أجندة الوطن أو هي متضاربة معها أَصْلاً .. وهي طُرُقٌ بلا عَودَةٍ فيما يبدو ونعلم.
نعيش اليوم اذن على وَقْعِ أحداثٍ تُعيد إلى الأذهان أخرى كانت محطّة سوداء في تاريخ تونس المعاصر، ونقصد أحداث جانفي 1978، حينها إتّحدت قوى الدّمار والخراب لتَصِلَ بالعلاقة بين الاتّحاد والحكومة الى نقطة اللاعودة، فئةٌ مِنَ الحُكْمِ ـ وهذه المرّة حكومة بأكملها ـ وفئة مِنَ الاتحاد استقرّ عَزْمهم على الوصول إلى المواجهة .. فكان الدّمار ذات 26 جانفي وما تلاه …
واليوم نكاد نعيش نفس الوضع مع فارق كبير وأساسي وهو أنّ الخطوط الحُمْر كلّها تهاوت، بعضٌ مِنْ مركزيّة نقابة قطاعيّة «سَرَطانيّة» المطالب قُصْوويّة الأساليب انفصالية التوجّه ـ وهو أمْرٌ ليس بالجديد ـ تُلوّحُ بـ «النّووي» وتستعمله تهدّد وِحْدَة الاتّحاد وتَرْهَنُ العقلاء في المركزية النقابية،
وفي المقابل حُكومة هُوَاةٍ في أحسن الحالات لأنّ أسْوَأ الحالات يحيل بعضها على سلطة أخرى غير السلطة التنفيذية .. لأنّ الأمر يصبح من اختصاص القضاء.
حكومة لَمْ تَجِد الحَلَّ مع نقابة القطاع التعليم وهي فيما بدا لنا لا تُريدُ الحَلَّ مع المكتب التنفيذي للاتحاد، وتريد حَشْرَهُ في الزاوية ما يضطرّه الى تصعيد الموقف خوفا على الوِحْدَةِ ..
ولسنا في باب التجنّي ولكن، ما معنى أن يأتي وزير التربية بتصريحات لا تبعث على التّهدئة قبل ساعة واحدة مِن لقاء في مجلس نواب الشّعب يُفترض أنّه لقاءٌ للَمْلَمَةِ الأمور وحَلْحَلَتِهَا ؟!
ما معنى أيضا أن يُصرَّ وزير الفلاحة ـ نعم وزير الفلاحة ـ على التصريح بما لا يفيد ايجاد الحلّ مع اتحاد الشغل، هل استنفد الوزير المشاكل العالقة في وزارته ليفيض بآرائه وحلوله على باقي الوزارات ؟!
ما معنى كذلك تصريحات وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية (…) في هذا التوقيت بالذات ؟!
يقيننا أن بعضا مِنْ دوائر الحُكْمِ في القصبة والمقرّبين منهم وجدوا في بَعْضِ مَنْ في نقابة التعليم ضالّتهم، وتقديرنا أنّ الجماعة مِنْ هنا وهناك يخوضون حربا بالوكالة لِمَنْ لا يريد أصْلاً للاتحاد أن يستمرّ في دوره الوطني والنقابي .. وهي سياسة تبدو مُمنهجة ومنسجمة تماما مع توجّهات بعض الأحزاب والأطراف التي تكنّ عَدَاءً فطريّا للاتّحاد وللعمل النقابي رَغْمَ حمايته لَهُم في سنوات الجَمْرِ ..
تقديرنا للأمر أنّ الجماعة يريدون حَشْرَ الاتحاد في الزاوية ما دفع رئيس الجمهورية الى التدخّل بطرق شتّى ـ وهذا دوره الدستوري ـ لفكّ الحصار المزمع ضربه على الاتحاد، ولكن في المقابل على عقلاء الاتّحاد فَهْم الكُنْه الحقيقي لرئيس خَبِرَ وعايش تاريخ تونس المعاصر وقرّر تجنيب بَلَده ويلات هزّات اجتماعية قد تعصف بما بقي مِنْ دَوْلَة، فيجد البعض الآخر المعلوم لدينا وضعا انهارت فيه الدولة المركزية وحُكْمًا محلّيَّا تحت سيطرتهم فتَسهل عليهم مجدّدا عملية الانقضاض على الدولة والمجتمع مجدّدا ولكن هذه المرّة مِنْ تحت.
ويجب أن نعي بأنّ هناك أطيافًا لَبِسَتْ حُلَلَ الحزبيّة ولا تريد لانتخابات محلية وجهوية أن تتمّ والدولة المركزية ما تزال تمتلك شيئا من القوّة والتماسك، هم يريدون انتخابات بلدية في وَضْعٍ شبه ثوري، همّهم الوحيد مَسْك السّلطة في مناخ تنعدم فيه المحاسبة .. هُمْ مِنَ اليمين الديني و«الحقوقي» خاصة ولكن ايضا من بعض اليسار.
ولأجل هذا الهدف فَهُم يتحرّكون في كلّ الاتجاهات على الأرض وفي الجهات وداخل المدن وفي الجوامع وفي الاتحاد وفي مفاصل الحُكْمِ .. ولا رادعَ لهم في المشهد الحزبي والجمعياتي.
.. ويقيننا أن بعض مَنْ في الحُكْم يتوافق هَوَاهُ مع زُمَرِ الخراب السياسي والمجتمعي هذه في انتظار إتْلاَف بقايا حِزْبٍ حَاكِمٍ هو يَحْكُم ولا يَحْكُمْ ولكنّ أخطبوط الخبث الاعلامي والسياسي جعله وحده محلّ محاسبة وأعفى شركاءه في الحُكْمِ الفعليّ مِن أيّ نقْدٍ أو محاسبة ..
حزب حاكم يراهن الكلّ على فشله في الاستحقاق الانتخابي البلدي حتّى مَنْ يحْكُمُ باسمه، ألَسْنَا في وضع سريالي عبثي يفتح على دمار أكيد لبنية المجتمع والدولة ؟
نحن هنا في لبّ صلاحيات الرئيس الذي يفرض عليه الدستور والمنطق السليم والخوف على الوطن والمواطن أن يتدخّل لقلب الطاولة على الجميع ..
همسة الى أمين عام اتحاد الشغل نورالدين الطبوبي، الكلّ يخوض حروبا لفائدة الغير مِن داخل الاتحاد ومن خارجه ومن بعض الأحزاب والقوى المعلومة لديكم ومِن الحكومة لفائدة جهة معلومة .. فلا تحشروا مَنْ يسعى الى الحلّ خوفا على الوطن .. لا تحشروه في الزاوية واعلم أنّ بعض الحقوق مطلوبة متى توفّرت شروطها ولكن أولويّات الوطن والسياسة أسمى، اذا تعلّق الأمر بغلق أبواب جهنّم على تونس ..
الجراحة .. الجراحة سيّدي الرئيس، الجراحة .. الجراحة السيد الأمين العام.

+++ الهاشمي نويرة
الصحافة اليوم
السبت 21.04.2018

مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة