Accueilالاولىغفران حسايني يكتب حول فلسفة المقاصد عند ابن عاشور وعقلنة التفكير الديني

غفران حسايني يكتب حول فلسفة المقاصد عند ابن عاشور وعقلنة التفكير الديني

لسنا نقول شططا إن اعتبرنا أن أزمة المسلمين اليوم لا تكمن بالدرجة الأولى في تنكّرهم للدين  بل في كيفية فهمهم له، فالقضيّة ليست أزمة دين أو أزمة وحي بقدر ما هي إشكالية تديّن وأزمة فهم،  وقد انحدر تفكيرنا العقلاني في الإسلام وأصابه الخمول والدروشة والتسطيح منذ قرون، وأصبح الفقه هو الترديد فقط لما سبق والشروح على الشروح والحواشي منذ القرن السابع للهجرة كما ذكر ذلك أستاذي الدكتور كمال عمران رحمه الله في كتابه “الإبرام والنقض في الثقافة الإسلاميّة”([1])… والمعلوم أنّ كل ترديد لكلام السابقين دون تفكير يعيد نفس النتائج السابقة الخاصة بالعصر الذي دونت فيه خاصّة فيما يعرف ” بالنوازل” والمستجدات

فعجز العقل الإسلامي المعاصر عن إنتاج المعرفة للإجابة عنه قضاياه الراهنة ساهم في تشظي المنظومة الفكرية الإسلامية بإعادة اجترار ما أقرّته المنظومة الفكرية والفقهيّة التقليدية لمجابهة زخم المتغيرات المعاصرة والنوازل المتتابعة التي شعّبت القضايا والرهانات بدرجة غير مسبوقة، ولعلّ ما فاقم من ترهّل هذا العقل المعاصر في فهمه لواقعه وللإسلام نفسه هو ذلك التوظيف الذي لحق الشريعة الإسلام من قبل تنظيمات متطرّفة اتخذت من مرجعيات الفقه التقليدية مبررات واهية للتصادم مع الواقع بطريقة عنيفة وغير مسبوقة، بما يجعلنا اليوم بين نقيضين على الأقل وهما الفهم العبثي والفهم المقاصدي وفي كلا الخيارين استتباعات على الواقع وعلى الإسلام نفسه.

  1. الفهم الأعرج وعبثية التطبيقات.

اشترط العلماء منذ القديم شرط الأهلية لكل من يعمل بعقله على الإجابة على نوازل العصر ومتغيراته انطلاقا من الشرع والدين حيث ورد في الدورة الحادي عشر لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدّة في موضوع العمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة ” أن الفتوى متوقفة على الأهلية التي يجب أن تتوفرّ في العالم العارف بنصوص الشرع والقواعد الفقهية ومطّلعا على العلوم الموصلة إلى فهم ذلك وطرق استنباط الأحكام العامّة بواقع العصر الذي يعيشه ([2]).

ففهم الشريعة وفق هذه القاعدة مبنية على قواعد أساسية أوّلها المعرفة بنصوص الشرع وقواعده الفقهية وثانيا الاطلاع على العلوم الموصلة إلى ذلك وثالثا الاطلاع على واقع العصر الذي يعيشه المسلمون ، إذ لا يمكن انطلاقا من هذه القاعدة أن تكون هناك فتوى تقتصر على فهم الشرع والعلوم الموصلة إليه والجهل التام أو الجزئي بواقع العصر وهذا ما يقع فيه كثيرون ممن اكتسبوا القدرة على استيعاب العلوم الشرعية وغابوا تماما عن استيعاب قضايا مجتمعاتهم المعاصرة فتصدمك عديد الفتاوى التي يجد فيها صاحبها سندا ودليلا من المدونة الفقهية القديمة ويغيب فيها تماما استيعاب تطورات الواقع ونوازله ورهاناته فتجد مثلا من ما زال يفتي بحرمة خروج المرأة من  دارها بلا محرم وهو يعيش في مجتمع نصفه تقريبا من النساء العاملات والطالبات أو تجد بمن يقول بأن الاحتجاج والتظاهر والتعبير عن الرأي حرام شرعا وهو يعيش في واقع اجتماعي متفجّر وديمقراطي يشمن التعبير عن الرأي ويدعوا إليه  أو من ينادي بالزواج العرفي (بالكلمة) استنادا على فتاوى زمن ما قبل التدوين والكتابة ويغيب او يغيّب عن ذهنه تماما ما أصبح بمرور الزمن قانونا عاما ومتداولا.

لذلك أقر الفقهاء المجتهدون المقولة التالية “وهي أنه لمّا كانت الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصحّ دخولها تحت الادّلة المنحصرة” ([3]) فمن يتخذ دليلا قديما على واقعة معاصرة لا يستوعب فيها متغيرات العصر  وتشعّب حاجات  المسلمين فيه فقد بنى رؤيته على فهم أعرج للدين متعسّف على النص بتنزيله على الواقع دون واسطة العقل الاجتهادي، وهذا مبني على اطلاع شرعي دون استيعاب واقعي ومن هنا تنشأ التيارات الدينية أو الفقهية  التي تحل قضاياها المعاصرة ترديدا لفتاوى ومقولات فقهية سابقة مبتورة عن واقعنا المعاصر وهو ما حذّر منه العلماء المجتهدون كالإمام شهاب الدين القرافي بقوله في كتاب الفروق ” أن الجمود على المنقولات ضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين  والسلف الماضين” .([4])

  • عقلنة المقاصد عند الإمام ابن عاشور.

لم يترك الإمام محمد الطاهر بن عاشور مجالا في العلوم الدينية إلا وجاس خلاله سابغا علينا من فيض علمه وقوة فهمه الشيء الكثير محاولا تجديد الفكر الإسلامي بمؤلفاته القيمة في التفسير والشروح وتبيان المعاني السامية للإسلام كدين قال عنه الإمام بأنه حقيقة وليس أوهاما”.

ومن بين مؤلفات ابن عاشور التي تعد مرجعا في العالم الإسلامي وسيرا على خطوات علماء سابقين مجددين ومجتهدين يعرفون علّة الامّة ودواءها في آن واحد كتابه القيم :”مقاصد الشريعة الإسلامية”. وهذا مجال من مجالات أصول الفقه التي اشتغل عليها العلماء منذ تأليف الإمام الشاطبي في علم المقاصد لتصبح منزلة مقاصد التشريع في الأحكام بمنزلة العلة عند بقية الأصوليين على خلاف بينهم.

ولعل الإمام الجليل محمد الطاهر ابن عاشور لا يطيل السرد والتطويل ليستهل مقدّمته بالقول أنه قصد من كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية ” أن يكون نبراسا للمتفقهين في الدين ومرجعا بينهم على اختلاف الأنظار وتبدّل الأعصار وتوسّلا إلى إقلال الاختلاف بين الفقهاء …حتى يستتب نبذ التعصّب والفيئة إلى الحق ” ([5]) . فكل فهم للدين وفق هذا المعنى والسياق لا يراعي مقصده وفلسفته التي تتصف بالشمولية والرحابة واليسر وانتفاء العبث عنه يعدّ خلال في الفهم يتبعه اخلال في المنهج وينتج عنه عبثية في الفتوى ومآلاتها وهذا ما  سيثمر فكرا متعصبا وقاصرا عن استيعاب مستجدات الواقع والحسم فيها.

لذلك عمل العلاّمة ابن عاشور منذ بداية كتابه إلى تثبيت علم المقاصد واحتياج الفقيه إليه في طرق إثباتها ومراتبها ، ولعلّ أجّل ما استدل به الإمام هو إخراج الحكم الشرعي من بوتقة التسليم ومعرفة العلة إلى إثبات وجود مقصد لهذا الحكم. فقد قال الإمام في كتابه. بأنه قد ثبت بالأدلة القطعية أن الله لا يفعل الأشياء عبثا. وأن كل شريعة شرعت للناس ترمي إلى مقصد لمشرعها الحكيم تعالى ([6]) ، فنسبة الشريعة إلى الله في فكر الامام ابن عاشور يجعلها ضرورة تتصف بالحكمة البالغة التي لا تتعارض مطلقا مع مصلحة الإنسان والمجتمع وهذا ما خلصت إليه الأبحاث الفقهية الجماعية المعاصرة بوجوب مراعاة المقاصد في جلب المصلحة ودفع المفسدة.

وقد قسم ابن عاشور كتابه إلى ثلاث أقسام كبرى كل قسم متفرع إلى عناصر وجعل القسم الأول في إثبات مقاصد الشريعة سعيا منه  إلى إثبات وجود هذا العلم بالأدلة القطعية سواء في النقل أو بالعقل نظرا لكون جمهور كبير من الفقهاء وعلماء الأصول تجاهلوه قرونا طويلة بما حوّل عددا كبيرا من الأحكام الفقهية والفتاوى إلى صرخات في واد سحيق لأنها لم تراع مقاصد الإسلام ولت تلبي حاجات المجتمع لأنّها ببساطة غير متفاعلة مع الواقع وكلا كلام عبثي في الدين هو بمثابة التجذيف ضد التيار بمخالفة فلسفة التشريع جملة وتفصيلا.

وقد ذكر ابن عاشور أن الآيات القرآنية التي نفت العبثية عن مقصد الخلق الأوّل كقوله تعالى :”أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وانّكم إلينا لا ترجعون” يقود المتفكّر أو العالم إلى قاعدة أساسيّة جوهريّة، وهي أنّ انتفاء العبث عن علّة الخلق ينفي مطلقا العبث عن شريعة الخالق، لذلك  يعرض الإمام ابن عاشور آيات تؤكد وجود المقصد الإلهي في تنزيل الكتب والتشريع بأنها لأجل صلاح البشر كقوله تعالى :”لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط” وقد كان  الإسلام خاتم الشرائع وهو أعظمها وأكثرها دقّة لهيمنته على كتب من سبقنا من أهل الكتاب وشرائعهم ووضعه لشريعة حيّة جدليّة في تفاعلها مع الواقع المتغيّر وهذا ما يحتاج العقل لاستنباطها لذلك قال الله ” إنّ الدين عند الله الإسلام” .

  • التشريع للواقع: الأسس والرؤية

ذكر ابن عاشور أن الشرائع كلها وبخاصة شريعة الإسلام جاءت لغاية صلاح البشر في العاجل والآجل أي في حاضر الأمور وعواقبها. وذكر أنه ليس المراد بالآجل أمور الآخرة، لأن الشرائع لا تحدد للناس سيرهم في الآخرة بل إن الشريعة الإسلامية منوطة بحكم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد في الدنيا في تحقيق أهداف سامية ترقى بالإنسان والبشر، فكل فعل  في هذا المعنى منتسب إلى الشريعة وموصوب بالعبث والفساد والافساد وعدم مراعاة المصالح العامّة والخاصّة يتصف ضرورة بالشذوذ والانحراف .

لذلك أكد ابن عاشور على ضرورة احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة وأبان طرقا ثلاث في إثباتها وأولها وأعظمها كما وصفّ” استقراء الشريعة في تصرفاتها من خلال اسقراء الاحكام المعروفة في عللها ومن ثمّ استقراء أدلّة الاحكام المشتركة في العلّة “([7])  وهو ما يمكّن من استخلاص الحكمة منها، امّا  الطريق الثاني فهو الأدلة الواضحة في القرآن في دلالتها الظاهرة كقوله تعالى :”والله لا يحب الفساد” فإنه يتسنى أن يؤخذ منها مقصد شرعي واضح بأن شريعة الإسلام لا يجب ان تؤول إلى الفساد والافساد  أما الطريق الثالث فهي السنة المتواترة معنويا الحاصلة في مشاهدة الصحابة لعمل النبي صلى الله عليه وسلم أو المتواترة عمليا وهو تكرار مشاهدة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم من آحاد الصحابة.([8])

ثم يأتي القسم الثاني في الكتاب في مقاصد التشريع العامة وذكر الإمام ابن عاشور ما أضحينا نحتاجه اليوم في مجتمعنا سواء في بناء الفتاوى الشرعية او حتى في القوانين الوضعية التي  لم تعد تراعي المقاصد السامية للإنسان كمفهوم وقيمة ، حيث انبنت الشريعة على المقصد الأعظم في فكر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور وهو الفطرة  البشرية التي أضحت اليوم تتبدّل وتتغيّر بمبررات متعددة وأفهام قاصرة وذلك انطلاقا من قوله تعالى” : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت لله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله” ، حيث قال الإمام ابن عاشور بأن الفطرة في الخلقة هو النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق ([9])

وما أنزل الشرع إلا لأجل دعوة أهله إلى تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بها حتّى لا تتفسّخ خصوصية الإنسان وتندرس معالم وجهه وتفضيله عن سر الخلق حيث قال الإمام ابن عاشور: «إذا أجدنا النظر في المقصد العام في التشريع نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة والحذر في خرقها واختلالها، ليؤسس  الإمام لسماحة الشريعة في حقل المعرفة الإنسانيّة ككل ويسحب هذه الرؤية بعد ذلك إلى النظام الاجتماعي  والعمران البشري من خلال مقصد حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان فضلا عن مقاصد أحكام العائلة والنكاح والأنساب والتصرفات المالية والصحة والفساد والقضاء والشهادة وغيرها التي تؤوب إلى  ستة مقاصد كبرى وهي حفظ الدين وحفظ النفس والعقل والنسب والمال والعرض وكلها تحتاج على تفصيلات واجتهادات يجعل من فلسفة التشريع منسجمة مع حاجة المجتمع المسلم إلى مواكبة عصره وتوقه إلى التقدّم على ضوء الوحي ومقاصده الإنسانيّة ودون أن يجد نفسه في تعارض ناتج عن خلل منهجي واخلال تطبيقي يقود إلى العبث .

فما كتبه الإمام ابن عاشور في هذا المبحث جليل وله فائدة عظيمة امام ما نعيشه اليوم في واقعنا المعاصر من رهانات وقضايا مستجدّة لا يجب أن يجد لها العقل التونسي حلولا جاهزة في كتب الأقدمين دون أن يواكب عصره ويحمل على عاتقه عبء قضاياه وقد تجاذبتنا المتناقضات بين التشدد والتفسّخ  حتّى أضحينا نعيش ونفكّر للحاضر والمستقبل بلا مقصد ولا هدي لسواء السبيل.


[1] أنظر كمال عمران: الإبرام والنقض في الثقافة الإسلاميّة، الدار التونسية للنشر، تونس 1992

[2] – عبد الوهاب بن لطيف الديلمي ، ضوابط الفتوى في ضوء الكتاب ومنهج السلف الصالح ،مجلّة مجمع الفقه الإسلامي الدولي الدورة 11 العدد 11 ،ج2. ص 288.

[3] -شوقي إبراهيم ، منهج الفقه في معالجة القضايا المعاصرة ، ندوة تطور العلوم الفقهية بسلطنة عمان ” الفقه الإسلامي والمستقبل الأصول المقاصدية وفقه التوقّع ” ،ص 338.

[4] –  شهاب الدين القرافي كتاب الفروق، الفرق 38 ، المسألة الثالثة ،ـ ج1 ،ص 188

[5] – محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ،ص 3.

[6] -محمد الطاهر بن عاشور ، مقاصد الشريعة الإسلامية ،ص 11.

[7] – المصدر نفسه، ص 18.

[8] – المصدر نفسه، ص 19.

[9] – المصدر نفسه ،ص 55.

**** غفران حسايني إعلامي وباحث دكتوراه في الحضارة والإسلاميات

مقالات ذات صلة

الأكثر شهرة